قضايا وآراء

الحشد لمواجهة الحشد

| أحمد ضيف الله

ما إن سيطر تنظيم داعش على أكثر من نصف مساحة العراق محتلاً محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى، حتى بُث خطاب في وقت متأخر من ليل الـ11 من حزيران 2014 لأبو محمد العدناني المتحدث الرسمي باسم تنظيم داعش قائلاً لمقاتليه: «واصلوا زحفكم فإنه ما حمي الوطيس بعد.. ازحفوا إلى بغداد الرشيد، بغداد الخلافة، فلنا فيها تصفية حساب.. صبّحوهم على أسوارها ولا تدعوهم يلتقطوا الأنفاس.. نعم نعم بيننا حساب طويل ثقيل ولكن تصفية الحساب لن تكون في سامراء أو بغداد بل في كربلاء المنجسة، والنجف الأشرك».
وفي عز فرح وسعادة أبناء زايد وآل سعود بما يجري، معتبرين ذلك «ثورة ضد الظلم والتهميش»، قالت المرجعية الدينية العليا (الشيعية) في كربلاء في خطبة صلاة جمعة الـ13 من حزيران 2014: إن «طبيعة المخاطر المحدقة في العراق في الوقت الحاضر تقتضي الدفاع عن هذا الوطن وأهله وأعراض المواطنين وهذا الدفاع واجب على المواطنين في الوجوب الكفائي..»، موضحاً «مثلاً لو تصدى 10 آلاف مقاتل للإرهاب وتحقق الغرض في رد شر هؤلاء المعتدين وحفظ البلد فإنه سيسقط عن الباقين هذا الدفاع، ولو لم يتحقق الغرض فتزداد الأعداد إلى أن يتحقق هذا الغرض..».
وتلبية لفتوى المرجعية الدينية، تدفق مئات الآلاف من المتطوعين من جميع المحافظات على مراكز التطوع، قدر عددهم بنحو (6) ملايين متطوع، ما دفع مستشار الأمن الوطني فالح الفياض إلى الإعلان في مؤتمر صحفي في الـ15 من الشهر ذاته، أن رئيس الوزراء نوري المالكي «أمر بتشكيل مديرية الحشد الشعبي التي تتولى مهمة تنظيم عملية تطوع الآلاف لقتال المسلحين».
فيما أعلن رئيس ديوان الوقف السنّي محمود الصميدعي في بيان تلاه في مؤتمر صحفي برفقة عدد من رجال الدين السنّة في الـ16 من حزيران 2014، أنه «أصبح من واجبنا الشرعي والقانوني والأخلاقي أن ننبّه ونذكر من بيده الأمر من علماء دين وشيوخ عشائر ورجال سياسية باختلاف أطيافهم لدرء الخطر الداهم»، مناشداً دول الجوار بأن «لا توغلوا بدماء أبنائنا فتندموا يوم لا ينفع الندم فالمؤامرة كبيرة ونتاجها خطير وستحرق الأخضر واليابس».
وقد شكل نجاح القوات الأمنية والعسكرية بالتعاون مع قوات الحشد الشعبي في تحرير ناحية (جرف الصخر) الواقعة شمال محافظة بابل والمناطق التابعة لها في الـ24 من تشرين الأول 2014، نقطة انعطاف مهمة على المستوى الاستراتيجي العسكري في مسيرة مواجهة تنظيم داعش، كان من أبرز نتائجه ارتفاع معنويات المقاتلين بشكل لافت وانكسار الحاجز النفسي الذي بناه هذا التنظيم بالأعمال الوحشية التي مارسها في حق المدنيين العزل، لكون (جرف الصخر) منطقة زراعية واسعة، تضم حقولاً وبساتين وبحيرات أسماك، شكلت على مدار (11) عاماً عقدة أمنية صعبة للقوات الأميركية (قبلاً) والعراقية على حد سواء، لتمركز معظم الفصائل المسلحة فيها كالقاعدة والجيش الإسلامي وكتائب ثورة العشرين.. ومؤخراً تنظيم داعش، حيث أتاح موقعها التحكم بالطرق التي تربط أربع محافظات هي بغداد وكربلاء والأنبار وبابل، مما مهد (لاحقاً) إلى أن تتتالى انتصارات القوات الأمنية والعسكرية مع قوات الحشد الشعبي وأبناء العشائر على جميع الجبهات.
وفي مواجهة انتصارات قوات الحشد الشعبي آنذاك نشرت دولة الإمارات العربية في الـ15 من تشرين الثاني 2014 قائمة تضم (83 مجموعة) صنفتها على أنها إرهابية، من بينها مجموعات عراقية منضوية في الحشد الشعبي، كمنظمة بدر وعصائب أهل الحق.. تلا ذلك دعوة السعودية مجلس الأمن في الـ20 من الشهر ذاته إلى «إصدار قرار يضع جميع الجماعات والتنظيمات الإرهابية الموجودة في سورية، على قائمة العقوبات بما فيها مليشيات حزب الله، وفيلق أبي العباس، وعصائب أهل الحق وغيرها».
وما إن أصدر مجلس الوزراء في الـ22 من آذار 2016 قراراً اعتبر فيه قوات الحشد الشعبي «تشكيلاً عسكرياً مستقلاً وجزءاً من القوات المسلحة العراقية ويرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة»، معلناً «فك ارتباط منتسبي هيئة الحشد الشعبي الذين ينضمون لهذا التشكيل عن الأطر السياسية والحزبية والاجتماعية كافة ولا يسمح بالعمل السياسي في صفوفه»، حتى صعدت تركيا والدول الخليجية وعلى رأسها السعودية من حدة الحرب النفسية والطائفية ضد قوات الحشد الشعبي، متهمة إياها بممارسات طائفية بحق السكان السنّة، في كل المناطق التي جرى تحريرها من تنظيم داعش.
ومع اقتراب القوات العراقية من بدء انطلاق عمليات تحرير مدينة الموصل، قال وزير الخارجية السعودي عادل الجبير خلال مؤتمر صحفي مع نظيره التركي مولود جاويش أوغلو في الرياض في الـ13 من تشرين الأول 2016: إن «الحشد الشعبي ميليشيا طائفية منتمية لإيران، سببت مشاكل وارتكبت جرائم في أماكن مختلفة في العراق، وإذا ما دخلت الموصل فقد تحدث كوارث».
وحتى بعد أن أقر المجلس النيابي في الـ26 من تشرين الثاني 2016، قانوناً يضع هيئة الحشد الشعبي بإمرة القائد العام للقوات المسلحة (رئيس الوزراء حيدر العبادي)، معتبراً تشكيلاته «كيانات شرعية تتمتع بالحقوق وتلزمها الواجبات باعتبارها قوة رديفة مساندة للقوات الأمنية»، قال وزير الخارجية السعودي عادل الجبير خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الأردني ناصر جودة في الـ26 من كانون الأول 2016: إن «الحشد الشعبي يقوده ضباط إيرانيون وعلى رأسهم قاسم سليماني»، مشدداً على أنه «إذا أردنا أن يكون العراق موحداً وتكون هناك مساواة بين الأطياف المختلفة فلا مكان هناك لقوات طائفية مسلحة».
وما إن أعلن رئيس الوزراء حيدر العبادي في الـ9 من كانون الأول 2017 طي ثلاثة أعوام من المعارك بالانتصار الكبير على تنظيم داعش الإرهابي، حتى انطلقت الأبواق الخليجية منادية بحل وتفكيك هيئة قوات الحشد الشعبي، ولم تصمت إلا حين قالت المرجعية الدينية، التي يحسب لها كل حساب، في خطبة جمعة الـ15 من كانون الأول 2017: إن «المرجعية الدينية العليا صاحبة فتوى الدفاع الكفائي»، ترى أن «المنظومة الأمنية العراقية لا تزال بحاجة ماسة إلى الكثير من الرجال الأبطال الذين ساندوا قوات الجيش والشرطة الاتحادية خلال السنوات الماضية»، محذرة من «استغلال المكانة التي حظي بها مقاتلو الحشد، وعدم محاولة استغلالها لتحقيق مآرب سياسية».
اليوم وبعد أن نجح تحالف الفتح الممثل للقوى السياسية التي شاركت في قوات الحشد الشعبي بالحصول على (48) مقعداً، محتلاً المركز الثاني بعد تحالف سائرون الذي حصد (54) مقعداً، عادت ذات الأبواق لتحشد أصواتها، باثة أكاذيبها مرة أخرى في مواجهة الانتصار الجديد للحشد الشعبي، مسوقة أخبار كاذبة، من أبرزها الإدعاء بأن الحشد الشعبي قام باختطاف ثلاثة من شيوخ عشيرة الخزرج من طريق بغداد – تكريت ومن ثم إعلان مقتلهم، ليتراجع ويقول، إنه أطلق سراحهم لقاء فدية مالية، إلى أن أعلنت وزارة الداخلية في بيان لها في الـ14 من شهر آب الحالي أن «قوة أمنية خاصة اقتحمت مكان وجود المخطوفين وحررتهم»، نافية «وجود أي مؤشرات إلى تورط عناصر من الحشد الشعبي في قضية المخطوفين»، داعية إلى «اعتماد الأخبار من مصادرها الحقيقية وعدم الترويج لأكاذيب وأخبار ملفقة».
وما إن أعلن الحشد الشعبي إعادة انتشار قطعاته «بأمر وتنسيق مع قيادة العمليات المشتركة» في المحافظات الغربية، حتى عادت ذات الأبواق للترويج بأنه انسحاب من المنطقة نتيجة مطالبات وضغوط من الأهالي المتذمرين من تجاوزات وممارسات عناصر الحشد، أسكتها خروج تظاهرات عفوية كبرى في محافظة نينوى، دفعت محافظ نينوى نوفل سلطان العاكوب إلى عقد مؤتمر صحفي في الـ15 من الشهر الجاري، مشيراً إلى «حضور الوجهاء وشيوخ العشائر ورجال الدين إلى ديوان المحافظة من خلال تنظيم تظاهرة كبيرة جداً وتم اللقاء مع ممثلين عن المتظاهرين وكانت مطالبهم هو بقاء الحشد في المدينة»، مضيفاً: «..نحن نضم صوتنا كحكومة محلية مع المتظاهرين وأن يكون التريث بإصدار هذا القرار».
وبعد سلسلة انفجارات طالت مخازن عتاد لبعض تشكيلات الحشد الشعبي في مدن عراقية عدة، قال ميثم الزيدي قائد فرقة العباس، خلال مؤتمر صحفي في الـ20 من الشهر الجاري: إن «مخازن العتاد التابعة لنا تم استهدافها أربع مرات خلال هذا الشهر»، مشيراً إلى «طائرات غير صديقة حلقت فوق مواقع هذه المخازن».
وكما يبدو أنه كلما حقق الحشد الشعبي انتصاراً، تصاعدت حدة التصريحات الخليجية المعادية له، متقاسمة الدور مع القوات الأميركية في قصف قوات الحشد الشعبي هنا أو هناك بـ«الخطأ»!. متجاهلة ما تعرض إليه «أهل السنّة» من عمليات قتل وتشريد على يد تنظيم داعش، وتعرض ما يقرب من نصف مليون أزيدي في سنجار وسهل نينوى للإبادة وسبي نسائهم، إضافة إلى المسيحيين الذين نهبت كل أموالهم وأُحرقت ودمرت كنائسهم، عدا ما تعرضت إليه باقي الأقليات في المناطق التي احتلها تنظيم داعش كالشبك والكاكائية، والتركمان الشيعة من عمليات إبادة وحشية.
لم يعد العراقيون يلتفتون إلى أكاذيب دول الخليج وأبواقهم في المنطقة، الذين باتت وظيفتهم الدائمة التعرض لقوى محور المقاومة. والعراقيون اليوم بكل أطيافهم أصبحوا أكثر وعياً وتكاتفاً في مواجهتها، مؤمنين بأن اليوم الذي سيدفع هؤلاء المتصهينون ثمن تآمرهم على العراق والمنطقة آت لا محالة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن