شرط الرأي
| حسن م. يوسف
بعض البسطاء من أبناء قريتي يظنون أنني «أبو العَرِّيف» الذي لديه لكل سؤال جواب ولكل جواب سؤال! لذا تجد الواحد منهم ينظر إليَّ باستغراب شديد عندما يطرح عليَّ سؤالاً وأجيبه بأنني «لا أعرف»، وقد يظن أنني أضنُّ عليه بمعرفتي التي يتوهم أنها بلا حدود! وقد علمتني التجارب، المرة غالباً، أن شرط الرأي المعرفة، وأنه يحسن بالمرء أن يحترم ما يجهل أكثر من احترامه لما يعرف، لأن الأشياء الصحيحة التي يقولها المرء قد تتبدد أدراج الرياح خلال دقائق أو ساعات، لكن الخطأ يُحْفَرُ في الصخر حتى يكاد يبقى مدى الدهر.
قبل أكثر من عقدين سألني عامل في محطة وقود على طريق دمشق- اللاذقية، من القائل: «الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ/ هُوَ أول وَهِيَ المَحَلُّ الثاني»، فأجبته بثقة شديدة أنه أبو تمام، حبيب بن أوس بن الحارث الطائي! ولكي يطمئن الرجل لصحة معلومتي فقد أنشدته بيتين إضافيين من القصيدة نفسها عن ظهر قلب.
شكرني الرجل بحرارة قائلاً بطريقة احتفالية: «معناها كسبت الشرط».
في طريقي إلى دمشق انتابني شيء من الشك بصحة تلك المعلومة فبحثت عنها فور وصولي، وقد تبين لي أن قائل «الرأي قبل شجاعة الشجعان « ليس أبو تمام بل مولانا المتنبي، أكبر الشعراء في كل العصور»!
بعد ثلاثة أسابيع مررت بالمحطة في طريق عودتي من دمشق فلاحظت أن حفاوة الرجل بي أقل من المعتاد، وعندما نظرت في عينيه فوجئت بشيء من عتب يخالطه ظل من استخفاف، وقبل أن أسأله عما به قال لي: « يا حسافة، يا أستاذ! طلع كلامك فاشوش!»
إلى هنا والقصة معقولة، لكن الشيء الذي لا يصدق هو أن الرجل كان يحدجني بنظرة مائلة ويدندن كلما عبأت بنزيناً من محطته: «الرأي قبل شجاعة الشجعان»! وقد أصبح الأمر مزعجاً مع التكرار، حتى إنني لم أعد أتوقف في تلك المحطة رغم سمعتها الطيبة!
خلال الأسبوع الماضي سألني أربعة أشخاص من قريتي عن رأيي بالبطاقة الذكية التي هي حديث الناس في كل مكان. وقد خجلت من تكرار كلمة لا أعرف، لذا أمضيت ساعات طويلة وأنا أقرأ عنها، والحق أنني كلما قرأت عن تلك البطاقة أكثر، ازددت تشوشاً. فوزارة النفط تصف هذه البطاقة في صفحتها على الفيسبوك بأنها « تحرك جديد وجدي للحكومة للتواصل مع كل مواطن على امتداد خريطة الجغرافية السورية بالشكل الذي يضمن له إمكانية الحصول على المواد المقننة أو الدفعات النقدية وضمان إيصال الدعم لمستحقيه. «إلا أن هذا الكلام الإنشائي الرنان زادني تشويشاً وخاصة عندما قرأت تصريحاً لناطق باسم الوزارة يقول فيه: إن وزارته وفّرت «17 مليار ليرة سورية، منذ بدء تطبيق مشروع البطاقة الذكية في 2014 حتى نيسان 2018»! فإذا كان هذا صحيحاً لماذا لم نسمع بهذه البطاقة العبقرية قبل العيد؟
ثمة معلومات مقلقة يتم تداولها بشأن هذه البطاقة، أهمها أنها بطاقة محلية صالحة ضمن محافظة إصدارها فقط! أي إنني أستطيع أن أذهب إلى دمشق دون العودة منها، وبالعكس! وهذا أمر له بعد سياسي خطير يشبه التقسيم الذي ضحّى شعبنا بخيرة أبنائه لمنعه!
الأمر المقلق الثاني هو أن الستين ليتراً التي ستخصص لكل سيارة بموجب البطاقة الذكية، غير قابلة للتدوير في حال عدم استهلاكها، كما أنها غير قابلة للزيادة إذا لم تكف!
أما القطبة العبقرية المخفية من البطاقة الذكية فهي فرض العمل بها قبل أن يسمع بها أكثر من نصف الشعب السوري وأنا منه! «فياله من عمل صالح يرفعه اللـه إلى أسفل!» على حد قول الشاعر أبو نواس!