المال الحلال
| زياد حيدر
كانت جدتي تقول كلما جاءتنا مصيبة مالية، أو أجبرنا على هدر مادي لم يكن في الحسبان، إن الأمر كما «لو أن مصارينا حرام»، ملمحة «كما لو أن اللـه يستهدفنا بحكمة خاصة»، بحيث لا يبقى من هذا المال أثر، أو على الأقل ألا تمتلئ جيوبنا به، أو يجري بين أيادينا، ونفرح به.
وكانت القصة دوما تأتي، كقدر دوار، فالمال المدخر يذهب في اتجاهات لا معنى لها، فيأتي البيت إصلاح مستعجل، يستهلك ميزانية أشهر، أو تعترض أحدنا مشكلة سخيفة لكن مكلفة، أو يأتي بابنا مستنجد، فيذهب المال وغالباً ما يذهب وراءه الامتنان والشكر بلا رجعة.
وكنت في صغري أتساءل إن كانت هذه الحكمة تمتلك شيئاً من الصحة؟ أو إن كان وراءها عبرة ما؟ فنحن كما أجزم دون رفة عين، أو ذرة شك، مالنا وهو ليس بالكثير، حلال بالمعنى الديني، وقانوني بالمعنى المدني، جنيناه كأفراد أسرة، مواطنين عاديين، وفقنا بفعل دراستنا ومثابرتنا في علمنا واهتمامنا العام، بمهن تجني مالاً جيداً، وتؤمن عيشة مريحة، واحتراما اجتماعيا، وليس فيها مجال للمناورة أو الغش، أو الاسترزاق من أرزاق الغير، أو الكسب غير المشروع، وإن كان فيها أحياناً، فأي منا لم يبحث في كواليس هذا الأمر، ولم يعننا، فما لنا يكفينا، وقناعتنا بأن ما ليس لنا لا حاجة لنا به.
وبالطبع، كما غيرنا، كنا نرى تلك القواعد الأخلاقية والسلوكية، مخترقة في كل مكان، وعلى كل المستويات، وكنا نرى أفعال السرقة والاختلاس والرشوة والسطو على المال العام، تبني احتراماً وسلطة وعلاقات، وتفتح سككاً مغلقة، وبوابات موصدة، ويترفع أصحابها، وفي طريقهم يدوسون على باقي البشر من فئة أولاد الحلال.
رغم ذلك لم يكن اللـه يصيبهم بمكروه، كان مالهم ينمو، وقصورهم تعلو، وسلطتهم تزيد، يرثها أولادهم، ويتابعون في مسالك أهلهم، فيحصّلون الاحترام المبني على «بوس ايده وادعيلها بالكسر» ذاته، دون مساس بمكانتهم، كما لو أنهم من أهل بيت كريم أفراده من أجيال متوجة بالعلم والخبرة، أو ورثة صناعيي سيارات مبتكرين، أو معامل نسيج أصيل، أو مصدري غذاء عضوي مطور، أو شوكولا ساحرة، أو صناع دواء متميز أو منشئي مخابر كيمياء حيوية ووراثية، كأنهم كذلك أباً عن جد، لا باعتبارهم سارقي مال عام، أو كاسري عنق القانون بالرشوة، أو مهربين لكل ما غلا ثمنه، وذلك من دون أن يفتح لهم القدر ثقبا في كيس المال المنهوب، ومن دون أن يسيل ماء ذهبهم مهدورا، ومن دون أن يصيبهم في علة، تقرب الناس من الحكمة التي ترددها النساء والرجال عن المال الحرام، وضياعه السريع.
فالحلال يذوي، والحرام يتجبّر، ولكن من دون أن تتغير المقولة، ومن دون أن تطبق على أصحابها الحقيقيين، أو تتراجع الثقة فيها، إذ يستنجد المجادلون بـ «لو أن» التي تبقي الأمر شرطاً قابلاً للنقاش، أو يواسون أنفسهم بمقولة «شو أخد معه؟» حين موت متجبر، علماً أن حرامية العصر، يجاهرون بسرقاتهم قبل غيرهم، ويعتبرونها معيارا لقوة السلطة والهيبة، ومناعتهم ضد أي محاسبة أو مساءلة. وعلى حين ظلت جدتي تردد المقولة الفارغة من أي حكمة واقعية، طالما رد أبي، مستهزئاً بأن ضياع المال والمدخرات المتكرر له حكمته الخاصة، لمن مثلنا، وهي أن «المنحوس سيعضه الكلب ولو ركب ظهر جمل».