ثقافة وفن

مثّل البحر موضوعاً أثيراً لدى حنا مينة … من «المصابيح الزرق» إلى «الأرقش والغجرية» رحلة للحكاية الروائية الممتعة

| وائل العدس

فقد الوسط الثقافي أحد أهم كتابه المنحازين إلى الفقراء والكادحين الذين يسعون في الأرض ابتغاء قوت يومهم، وقدم خلال حياته نموذجاً ناصعاً للمثقف العضوي العصامي المهموم بقضايا الثقافة والمثقفين إلى جانب انشغاله بالمهمشين من أبناء الطبقات الكادحة الذين كانوا أبطال أعماله الأدبية الخالدة.
ولا يختلف اثنان بأن رحيل الكاتب والروائي الكبير حنا مينة سيشكل فراغاً كبيراً على الساحتين الأدبية والفنية، ولكنه بما ترك من تراث سيمتد ذكره عبر الزمان، وخاصة أنه يعتبر شيخ الرواية السورية وأحد أعمدة الرواية العربية في إثرائه لفيوض الخطابات السردية وتمازجاتها التاريخية والسيَرية والواقعية مع الأخيولة.

الاتجاه الواقعي
إن حياة مينة كانت مزيجاً من الكفاح والنضال، ليس من أجل أن يؤسس لنفسه مكانة أدبية مرموقة، أو وضعاً اجتماعياً يتباهى به، أو يكتنز أموالاً طائلة يكرسها لراحته، ولكن كفاحه في الحياة جاء مقروناً بالبسطاء الذين التصق بهم، وغرس حياته في أعمارهم، ومن ثم كان خير متحدث عنهم في كل أعماله الروائية، تلك التي ستظل متناغمة مع الحياة في كل حالاتها وأحوالها.
كان واحداً من الكتاب الذين عالجوا مسألة العلاقة مع الآخر، ووعي الذات في أعمال روائية معروفة طغى عليها الاتجاه الواقعي نهجاً فنياً عبّر من خلاله عن فلسفته وآرائه في مختلف أسئلة الوجود والحياة ومظاهرهما.
بدأ بكتابة القصة في أربعينيات القرن الماضي ونشرها في الصحف السورية، وكتب أولى رواياته، وأشهرها عام 1954، وهي رواية «المصابيح الزرق» التي تم تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني بنفس الاسم، ثم توالت أعماله بعد ذلك حتى بلغت نحو 40 رواية ومجموعة قصصية.
ويعد عشاق النقد التقييمي مينة أبرز اسم بعد نجيب محفوظ على خارطة الرواية العربية المعاصرة.

بين القصة والرواية
يميز مينة بين القصة والرواية، فعلى حين أن الرواية حياة وبالتالي فهي تتقدم، نجد أن القصة عبارة عن لقطة مفردة من الحياة، فهي تتراجع، وفي رأي حنا أنه ليست فقط القصة وحدها هي التي تتراجع أمام تقدم الرواية، بل الشعر والمسرحية وكل الآداب النثرية.
أما عن علاقة المضمون بالشكل فقد كان المضمون هو الذي يجذب انتباهه. وها نحن نسمعه يقول: «في كل رواية أكتبها هناك الجديد، وهناك الاكتشاف للمناطق المجهولة».

أديب الماء
وصف مينة بـ«أديب الماء» بالنظر إلى الحضور الكبير للبحر في أعماله، كما أنه عمل بحاراً على القوارب والسفن، فكانت تجربة البحر عميقة في رواياته، وكان البحر بطلاً للعديد من الأعمال الروائية التي تميزت بالبساطة والعمق والواقعية الشديدة التي تنقل الحياة كما نعيشها، وهو ما ساهم في سهولة قراءته وشعبيته الكبيرة.
ومثّل البحر موضوعاً أثيراً لدى مينة، فعلى مدار أعماله الروائية «حكاية بحار، المصابيح الزرق، الشراع والعاصفة، الربيع والخريف، الرحيل عند الغروب، الثلج يأتي من النافذة، النجوم تحاكم القمر، نهاية رجل شجاع» توالت وتعددت مفردات البحر، أسماء، وشخوصاً وعناوين… ويظهر البحر رمزاً وجزءاً من الذات التي لا يمكن أن تكتمل إلا به، إنها تتوحد به وفيه، ويشكل كوناً واقعياً مضاداً لحالة الجدب والخواء التي تضرب بأطنابها الوجود العربي.
إذاً كانت مساهمة مينة كبيرة بأدب البحر، وذلك لأن الأدب العربي القديم يكاد يكون خالياً من الإبداع العربي البحري، ولعل أهم الروايات «الشراع والعاصفة» التي أطلق النقاد عليها اسم قصيدة البحر أو ملحمة البحر وتُرجِمت إلى الإيطالية ونال جائزة عليها. فمعاناة البحر في اللجة وفي الأبعاد القصية ومجابهة العواصف، لا يوجد ما يعالجه بفنية عالية، كما لا نجد في الأدب العربي الحديث، مثل هذا الحيز اللازم لهذا الأدب.
وقد أشار أحد الباحثين إلى أن البحر في أدبه إنما هو مكان وإنسان وإله، تتعرف إليه مادة وروحاً وتصطاده رمزاً وأسطورة وتقرؤه فلسفة لمعنى الحياة ذاتها. وهكذا نجد أن المرأة والبحر لديه مرادفان للمغامرة والتجربة وارتياد المجهول واكتشافه، مناقضان للرتابة الاعتيادية، وهادفان دوماً إلى التجديد والتغيير.
ومما كتبه عن البحر: «إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نقشت وشماً على جلدي لا أدعي الفروسية، المغامرة نعم! أجدادي بحارة هذه مهنتهم، الابن يتعلم حرفة أهله، احترفت العمل في الميناء كحمّال، وكنت كذلك بحاراً ورأيت الموت في اللجة الزرقاء ولم أهبه لأن الموت جبان فأنا ولدت وفي فمي هذا الماء المالح، لكنه هذه المرة كان ملح الشقاء وملح التجارب وملح العذاب جسدياً وروحياً في سبيل الحرية المقدسة، صبوة البشرية إلى الخلاص، ولذلك كان بديهيا أن أطرح منذ وعيي الوجود أسئلتي على هذا الوجود وأن أتعمد في البحر بماء العاصفة وأن أعاني الموت كفاحاً في البر والبحر معاً».
واعتبر الأديب والأكاديمي الجزائري واسيني الأعرج أن للراحل وجهة نظر في شخصيته والناس الذين تأثر بهم كشخصية إرنست همنغواي، الذي اتصف أيضاً في بعض نصوصه بالجانب البحري، والحياة التي عاشها أثرت فيه وأعطت لكتاباته نمطاً معيناً حتى سمي بكاتب البحر أو روائي البحر، تسمية يرى فيها واسيني اختزالاً لتجربة مينة، لأنه كان أوسع من البحر ففي رواية مثل «الشمس في يوم غائم» يشير واسيني إلى وجود حياة وجهاد ونضال ومتعة واستمتاع بالحياة تتجاوز الحالة البحرية، وإن كانت التيمة الأساسية التي هيمنت على أكثر نصوصه هي تيمة البحر.

مينة العالمي
ترجمت روايات مينة إلى سبع عشرة لغة أجنبية، «المصابيح الزرق» تُرجِمت إلى الروسية والصينية، و«الشراع والعاصفة» إلى الروسية والإيطالية، و«الثلج يأتي من النافذة» دُرِّسَت في السوربون بفرنسا لطلاب القسم العربي، و«الشمس في يوم غائم» ترجمتها منظمة اليونسكو إلى الفرنسية، وترجمت إلى الإنكليزية في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة الأميركية، وتُرجِمَت «الياطر» إلى الفرنسية والإسبانية والرومانية.
و«بقايا صور» ترجمت إلى الصينية والإنكليزية في واشنطن والفارسية والألمانية. و«المستنقع» ترجمت إلى الفارسية، و«حكاية بحار» إلى الروسية.
فأدب مينة انتشر عالمياً وساعد هذا على انتشار تجربته في أوروبا والصين إضافة إلى الوطن العربي، فقد عبّر عن علاقة الأنا بالآخر.

الشراع والعاصفة
صدرت عن دار الآداب سنة 2006، وتعد من أفضل 105 روايات عربية، وتحديداً بالمرتبة الـ14، ترجمت الرواية إلى اللغة الروسية بواسطة فلاديمير شاجال.
وتروي قصة مدينة سورية ساحلية أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث صور فيها الكاتب ببراعة مدهشة أثر الحرب وما تركته من عواصف في بلاد يحتلها الفرنسيون وأبرز التناقضات التي كانت تفترس مجتمعاً غير متجانس، ولكنها أولاً قصة رجال البحر، قصة الانتصار على الطبيعة القاسية وقصة الإرادة البشرية والمغامرة.
في إحدى مقالاته في الصحف المحلية، أكد مينة أن سردية رواية (الشراع والعاصفة) كانت بنت مرحلتها ظاهرياً، لكنها في المضمر، كانت بنت هذا الوقت وما يليه، مادام الكلام على البحر وأدبنا العربي القديم والحديث خال منه تقريباً، يعد جديداً في مفرداته وتعبيراته، فقبل (الشراع والعاصفة) لم تكن ثمة رواية بحرية، رغم أن العرب جميعاً يعيشون على شواطئ البحار وكل ما كان في القديم نتف من حكايات بحرية سندبادية. ‏
وقال: سيجد القارئ في ملخص كل فصل من الرواية، الصدقية الضرورية، لإثبات أن سردية هذه الرواية، سردية راهنة، ذات إضافة مستقبلية، ذلك أن سردية (الشراع والعاصفة) تبدو عادية، في القراءة الاطلاعية، وهذه السردية العادية يتوافر لها شرطان، يجعلانها في غير العادية، حتى بالنسبة للقراءة لأجل المطالعة وهذان الشرطان هما: الإيقاع والتشويق، ففي الإيقاع يظهر السرد رهواً حيناً متوتراً حيناً، هادئاً تارة، هادراً طوراً، وفق نمو السياق الروائي، من دون تعسف أو افتعال أو صراخ، هذه الآفات التي تقتل الإبداع لأنها قبلاً تقتل مستواه الفني، أما التشويق فإنه يشد القارئ إلى ما يقرأ، يأخذه إليه، كما الفيلم السينمائي الجيد، ويروضه ما إن تبدأ أحداث الصراع مع البحر، خلال العاصفة التي تنبثق من الصمت جاعلة المركب أو السفينة مثل طاسة مفرغة، مدورة يلهو بها الموج قبل أن تغيبها اللجة في القاع، أو تكتب لها النجاة بشكل ما، خارق غير مألوف وغير مسبوق أيضاً. ‏
وأوضح أنه حتى مع استعمال واو العطف، تبقى السردية في هذه الرواية مغايرة للسردية في الروايات المجايلة لها، ومرد ذلك إلى أن رشاقة السرد أو شاعريته، تخفف كثيراً من أثر واو العطف هذه، مبيناً: لكن عليّ أن أشير إلى أن هذه الواو لم تعد صالحة الآن مع تطور السردية، في القصة والرواية والمسرحية والمقالة، وحلول الطقس البرقي، الذي تنتفي منه أحرف العطف، لأنها تتجانف مع الجملة القصيرة، المتدافعة، التي تلعب فيها الفواصل والنقاط وعلامات التعجب والاستفهام، دوراً مميزاً يتلاءم تماماً مع السلسلة الثقافية الجديدة.

الياطر
تحكي رواية «الياطر» عن صياد من مدينة اللاذقية يرتكب جريمة قتل ويضطر للهرب فيعيش في مكان ما على الحدود السورية التركية حيث لا يوجد سوى البحر والسهل والغابة.
ويعيش هناك غريباً وحيداً هارباً في خيمة نصبها على شاطئ البحر وأصبح السمك غذاءه الوحيد. إلى أن يصادف راعية من بلاد الأتراك فيفكر بأن تكون هذه صلة وصله بالعالم الخارجي يعطيها السمك لتبيعه في قريتها القريبة وتأتيه بالمال، إلا أنه حدث ما لم يكن يتوقعه وقع في غرامها وهي كذلك، هو المتزوج الذي لم يعرف الحب من قبل وهي المتزوجة التي تركها زوجها وسافر إلى الأناضول منذ زمن ولا خبر عنه.
وتمثل الرواية حديث روح مجروحة تبحث عن الحب والأمان تخرج من صفحاتها رائحة البحر الصباحية والكثير الكثير من الزرقة.

بعض جوائزه
– وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة بتاريخ 28/5/2002م.
– جائزة المجلس الأعلى للثقافة والآداب والعلوم بدمشق عن رواية «الشراع والعاصفة» عام 1968.
– جائزة سلطان العويس من الدورة الأولى عام 1991 على عطائه الروائي.
– جائزة المجلس الثقافي لجنوب إيطاليا، فازت بها رواية «الشراع والعاصفة» عام 1993، كأفضل رواية ترجمت إلى الإيطالية.
– جائزة «الكاتب العربي» التي منحها اتحاد الكتاب المصريين بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على تأسيسه، اعترافاً بموقعه المتميز على خريطة الرواية العربية.

أعماله الأدبية الكاملة

1 – المصابيح الزرق، رواية، 1954.
2 – الشراع والعاصفة، رواية، 1966.
3 – الثلج يأتي من النافذة، رواية، 1969.
4 – ناظم حكمت وقضايا أدبية وفكرية، سيرة ودراسة، 1971.
5 – الشمس في يوم غائم، رواية، 1973.
6 – الياطر، رواية، 1975.
7 – بقايا صور، رواية، 1975.
8 – الأبنوسة البيضاء، مجموعة قصصية، 1976.
9 – من يذكر تلك الأيام، مجموعة قصصية بالاشتراك مع د. نجاح العطار، 1976.
10 – أدب الحرب، دراسة بالاشتراك مع د. نجاح العطار، 1976.
11 – المستنقع، رواية، 1977.
12 – ناظم حكمت: السجن–المرأة–الحياة، دراسة، 1978.
13 – ناظم حكمت ثائراً، دراسة، 1980.
14 – المرصد، رواية، 1980.
15 – حكاية بحار، رواية، 1981.
16 – الدَّقل، رواية، 1982.
17 – هواجس في التجربة الروائية، خواطر وتأملات، 1982.
18 – المرفأ البعيد، رواية، 1983.
19 – الربيع والخريف، رواية، 1984.
20 – مأساة ديميتريو، رواية، 1985.
21 – القطاف، رواية، 1986.
22 – كيف حملت القلم، مجموعة مقالات وحوارات، 1986.
23 – حمامة زرقاء في السحب، رواية، 1988.
24 – نهاية رجل شجاع، رواية، 1989.
25 – الولاعة، رواية، 1990.
26 – فوق الجبل وتحت الثلج، رواية، 1991.
27 – الرحيل عند الغروب، رواية، 1992.
28 – النجوم تحاكم القمر، رواية، 1993.
29 – القمر في المحاق، رواية، 1994.
30 – حدث في بياتخو، رواية، 1995.
31 – المرأة ذات الثوب الأسود، رواية، 1996.
32 – عروس الموجة السوداء، رواية، 1996.
33 – المغامرة الأخيرة، رواية، 1996.
34 – الرجل الذي يكره نفسه، رواية، 1998.
35 – الفم الكرزي، رواية، 1999.
36 – القصة والدلالة الفكرية، دراسة، 2000.
37 – حارة الشحادين، رواية، 2000.
38 – صراع امرأتين، رواية، 2001.
39 – البحر والسفينة وهي، رواية، 2002.
40 – حين مات النهد، رواية، 2003.
41 – شرف قاطع طريق، رواية، 2004.
42 – الذئب الأسود، رواية، 2005.
43 – الأرقش والغجرية، رواية، 2006.
44 – هل تعرف دمشق يا سيدي، مجموعة مقالات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن