ثقافة وفن

«دمشقيات».. مرابع الطفولة ومهوى الأفئدة … البيت الدمشقي يحقق السعادة والرفاهية للمقيمين فيه ويتلائم مع مناخ المنطقة صيفاً وشتاءً

| سارة سلامة

بإصدار جديد من وزارة الثقافة، الهيئة السورية للكتاب، وتحت عنوان «دمشقيات».. مرابع الطفولة ومهوى الأفئدة.. عالم من الذكريات»، وضع المؤرخ والمؤلف منير كيال مجموعته الجديدة لتكون خير شاهد على تاريخ دمشق وحاراتها وأزقتها ودورها ومدارسها وأهلها وأجواء المسرح والتعايش فيها، وذلك ضمن مرجع لذاكرة عاشها وشهدها بنفسه واختار أن يكون عشقه وحبه وقلمه لمدينته التي طالما تلقف منها علماً وأخلاقاً وحياة، حيث أضاء المؤلف في أبحاث هذا الكتاب على بعض أحياء مدينة دمشق وصولاً إلى البحث في جوانب من حياة دمشق العامة، فجعل الكتاب في بابين: يشمل الأول منه ستة فصول، ويتفرع الباب الثاني إلى أحد عشر فصلاً أطلق عليها اسم «معالم دمشقية».

ويقدم الكتاب إطلالة على عدد من أحياء مدينة دمشق، ويوثق ما رآه الكاتب بأم عينه وما عايشه في هذه الأحياء ونشوئها وامتدادها ووظيفتها الاجتماعية، ويقف عند ترابط الناس بهذه الأحياء وتعايشهم وتحابهم وإيثارهم ووفائهم.
ويتعرض للدّور الدمشقية وما كانت عليه من فن معماري أصيل وذوق فني دقيق وحسن تلاؤم مع ظروف الطبيعة من حرّ وقرّ، فضلاً عن وظيفة هذا البيت في تأمين السعادة والرفاهية للمقيمين فيه.
ثم ينتقل إلى دارة الخوجة والكتاتيب، ويعايش الناس في سهراتهم و«عراضاتهم» ومعتقداتهم الشعبية، إضافة إلى أجواء مسرح الظل ودوره في حياة المجتمع بوصفه مبشراً بظهور المسرح عند العرب، ويقدم لمحة عن أوابد دمشقية عمرانية تمثلت في قلعة دمشق وحماماتها.
وكان استهل الكتاب بعبارات دافئة خصها لدمشق وأهلها حيث قال: «أحب دمشق وأهل دمشق.. موئل الأجداد والآباء والأطفال أهل الوفاء.. بها ولدت وبها نشأت وعرفت بها الأمجاد».

مرابع الطفولة
وكان الفصل الأول عن ميدان الحصى من بوابة اللـه مروراً بباب المصلى إلى السنجقدار، وتوقف عند موقع بوابة الله، وعند مصطبة سعد الدين لبيان أهمية هذين الموقعين في مسيرة محمل الحج الشامي، كما توقف عند موقع باب المصلى ومكانته الدينية والاجتماعية مقارنة بموقع «مرجة الحشيش» –المرج الأخضر- ثم انتقل إلى موضوع السنجقدار والمرجة، وما للسنجقدار من أهمية لموكب الحج الشامي، وعمد إلى بيان ما كان للمرجة من دور عبر تاريخها الطويل.
«ثمة صور ومشاهد في الذاكرة يحرص أبناء جيلنا، جيل الثلاثينيات من القرن العشرين، وأمثالهم على استرجاعها، لما لها من أثر بالغ في حياتهم، فهي مهوى أفئدتهم ومرابع طفولتهم، فيها تعلموا أبجدية الحياة، منذ أن رأت أعينهم النور، عاشت معهم، وتأصلت في ذاكرتهم كشيء منهم، إنها تحوم في هذه الذاكرة حوم فراش حبيس أمام ضوء من شعلة، وزاد من شوقهم وتمسكهم بتلك الرؤى، ما نعيشه في هذه الأيام، وما أصاب الحياة المعاصرة من ضروب الحضارة.
ومن أمتع تلك الذكريات ما كان من أمر موقع: بوابة الله، وميدان الحصى و(مرجة الحشيش)، حيث أطلقت تسمية بوابة اللـه على مدخل مدينة دمشق من جهة الجنوب، وهي البوابة التي كان يسلكها موكب الحج الشامي إلى الديار المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ومنهم من أطلق على هذه البوابة اسم: بوابة الموت، لما كان يعانيه الحجاج إلى بيت اللـه الحرام، في هذه القافلة من عنت وتشرد، وسلب ونهب، وهم في طريقهم عبر هذه البوابة إلى الديار المقدسة، إضافة إلى أحوال الجو، من حرّ وقرّ، فلا يعود من أولئك الحجاج حياً إلا النزر اليسير، وهذا كله كان في وقت بلغت فيه الدولة العثمانية أوج ضعفها ولم يعد لها من السلطة إلا الاسم، سواء في بلاد الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، أم في الطريق المؤدي إلى تلك البلاد، أو في الأقاليم التي كانت تحكمها، وهو ما جعل البدو يتجاوزون خط البادية إلى خط الحاضرة (المدن) ويعتدون على أهلها، حتى قيل إنه بإمكان البدوي في تلك الأيام (أن يأكل على رأس ابن المدينة في الطبق)».

أزقة وحارات
وتناول في الفصل الثاني حي الشاغور، فأحاط بتفاصيل أزقة وحارات وبيوتات هذا الحيّ، وساعده في ذلك أنه من أبناء هذا الحيّ وعلى صلة مع كثير من سكانه.
يذهب الباحثون إلى تأويل كلمة شاغور، سواء في أصلها، أم معناها، أو اشتقاقها اللغوي، ولعل الأقرب منها قبولاً، وما كان يدل على غزارة المياه، التي تحفر مجاريها تحت دور الحي، لتذهب إلى بساتين الشاغور وتروي أراضيها، ومن هذه المياه ما كان من مياه نهر بانياس ومن نهر تورا ومن مياه نهر قليط، الذي تحمل مياهه (تقلط) قاذورات المدينة لتلك الأراضي، فإذا حفرت المياه مجاريها تحت الأرض، يقال إنها شغرت، ومن ذلك كلمة شاغور، التي تعني كثرة المياه التي تمر تحت القشرة لأراضي هذا الحي، أي تحت دورها».
وكان الفصل الثالث للبحث في نشوء حي القيمرية، وأهمية جواره للمسجد الأموي، ودوره في عمران مدينة دمشق، والمواقع المهمة في الحي.
«تعود تسمية الحي بالقيمرية إلى مدرسة أقامها الأمير ناصر الدين القيمري، أحد قواد الناصر الأيوبي، وقد عرفت هذه المدرسة باسم: المدرسة القيمرية الجوانية الكبرى، فأصبح اسم الحيّ القيمرية، وقد كان يعرف باسم سوق الحريميين.
كما أطلق على الحيّ في القرن التاسع عشر اسم (الهند الصغرى) لما كان عليه حيّ القيمرية من طرائف الصناعة الفاخرة وما اشتهر به من أصناف النسيج، وهو ما كان له دور كبير في ازدهار مدينة دمشق داخل السور».

معالم من دمشق
أما الباب الثاني من الكتاب فقد خصص فصوله الأحد عشر للبحث في معالم من دمشق التي كان لها الأثر البالغ في حياة أهلها، فتحدث عن الدار الدمشقية وموقعها من الحارة الدمشقية، ثم انتقل إلى وحدات هذه الدار، وما بها من غرف وقاعات وموقع كل منها في فصلي الصيف والشتاء، والظروف الجوية المصاحبة لذلك من حر وقر، وأيضاً أضاء على الزراعة العريقة في الدار الدمشقية.
«لدى ذكر الحارة الدمشقية من الضرورة بمكان أن نتوقف عند تفرعاتها، لما في ذلك من إيضاح لتوضع دور الحارة، وما ينشأ عن ذلك من مسميات تليق بهذه الحارة، كالدخلة والزابوقة وتحت الصيبات.
والدور في الحارة الدمشقية متلاصقة متراكبة بحيث يمكن أن يلحظ المرء غرفة من دار ما ضمن بدار مجاورة، وغرفة تغطي الطريق العام لتركب جدار بيت الجيران في الطرف المقابل من الحارة، وهم يطلقون على ذلك المكان المغطى من الحارة اسم: (تحت الصيبات)، وفي جميع الأحوال يكون البيت في الحارة الدمشقية منغلقاً على الزقاق، ولا شيء يلفت النظر إلى هذه الدار أو تلك، ولولا أبواب الحارة لحسب الغريب عن الحيّ أن الحارة خالية من السكان.
ومن الملاحظ أن أي باب في الحارة لا يقابله باب بيت آخر في الطرف المقابل من الحارة، أما العلاقات بين الحارات المتقاربة، وحتى الحارات المتباعدة منها، فأساسها التواد والمحبة والتزاور، ووقوف الجيران إلى جانب بعض في السرّاء والضراء».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن