قضايا وآراء

فيلم أميركي قصير

| رفعت البدوي

منذ قمة هلسنكي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي دونالد ترامب برز للواجهة الصراع المتصاعد بين الإدارة الأميركية المكونة مما يسمى الحكومة العميقة وبين ترامب الذي واجه موجة عنيفة من الهجوم تتهمه بضعف الأداء وذلك فور الانتهاء من المؤتمر الصحفي المشترك في هلسنكي حتى إن بعض أعضاء حزب ترامب من الحزب الجمهوري لم يتوان عن اتهام ترامب نفسه بالخيانة العظمى ليجد الرئيس الأميركي نفسه محاصراً بالمزيد من المطبات والأزمات الداخلية التي أضحت تلاحقه ليل نهار وصار في موقف المدافع الضعيف مكبلاً بالمشاكل الداخلية وخصوصاً أنه أمام انتخابات أميركية نصفية من شأنها تحديد مصيره الطامح لولاية ثانيه في البيت الأبيض.
تهديد الرئيس الأميركي وتحذيره من إمكانية انهيار الاقتصاد الأميركي بسبب محاولات عزله أو إقالته هو دليل واضح على ضعف موقف ترامب في الداخل وإدراكه لحظة مواجهة مع مجموعة لا تعرف الرحمة مؤثرة في الداخل الأميركي وخوفاً من مصير مشابه لما آل إليه مصير سلفه ريتشارد نيكسون الذي اضطر إلى تقديم استقالته بعد تأكده البدء بإجراءات عزله في الكونغرس الأميركي.
على الرغم من الأرقام التي تتحدث عن تحسن الأداء الضريبي الأميركي وعن انخفاض العجز في الميزانية وانخفاض معدل البطالة الأميركية بنسب عالية إلا أن الملاحظ أن أي رئيس أميركي ومنذ بدء التاريخ الأميركي لم يواجه هذا الكم الهائل من المشاكل والانتقادات اللاذعة في الداخل والخارج حتى إن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الحليف الإستراتيجي لأميركا ضاقت ذرعاً من محاولات ترامب لخنق أوروبا ما دفع ميركل نفسها للقول إن على ألمانيا البحث عن حلفاء جدد والبدء في البحث عن بدائل للتداول بالدولار الأميركي وهو المضمون نفسه الذي يتم تداوله في كل من فرنسا وروسيا وتركيا وإيران رغم اختلاف الظروف والمتطلبات.
لم يجد ترامب مفراً من المواجهة الداخلية إلا بافتعال المزيد من الأزمات الخارجية عبر توجيه الاهتمام صوب المشكلة الاقتصادية مع الصين ومحاولة إبرام اتفاق مع كوريا الديمقراطية ثم التراجع عنه، والعقوبات المتزايدة على روسيا وتركيا وإيران إضافة إلى محاولات إخضاع أوروبا برمتها للإرادة الأميركية وذلك بغرض تخفيف الضغط علاوة على حرف الأنظار عن أزمات الداخل.
لم يخف ترامب عدم رغبته في خوض المعارك العسكرية والزج بالمزيد من القوات الأميركية في منطقتنا دفاعاً عن هذا النظام أو ذاك معلناً نيته الصريحة بالانسحاب من ملفات منطقة الشرق الأوسط الشائكة والمكلفة التي ترهق الخزينة الأميركية من دون مردود مربح مشترطاً في الوقت عينه تأمين دفع البدل المادي مقابل حماية أنظمة الخليج وإجبار تلك الأنظمة على إبرام صفقات ضخمة مع مصانع الأسلحة الأميركية أو بالاستيلاء على ثرواتها المالية والنفطية وخاصة الدول الخليجية التي تطلب حماية أميركية مع بقاء النية الأميركية بوجوب تحويل الاهتمام صوب الشرق الأقصى نحو الصين وكوريا واليابان بهدف السيطرة على مركز الاقتصاد العالمي القادم انطلاقاً من نظريته كمقاول تجاري ناجح همه السيطرة على مقدرات البلاد صاحبة الاقتصاد القوي وإبقاء الدولار الأميركي العملة المتداولة عالمياً وتوظيف المجاميع في الداخل الأميركي.
إذاً الأميركي أضحى في أزمة نتيجة غياب الدبلوماسية الواضحة وعدم وجود إستراتيجية أميركية حقيقية وتحولت أميركا لمجرد باحث عن ثمن أو مردود مادي أو سياسي كأداة لتغطية التعقيدات الداخلية بسبب صراع ترامب مع مؤسسة الحكومة الأميركية العميقة المؤلفة من البنتاغون وأجهزة إعلامية ومخابرات عسكرية فأضحى مجرد باحث عن ثمن ومردود.
في الوقت الذي تشهد فيه منطقتنا العربية مخاضاً سياسياً بالغ التعقيد بدءاً من إعادة تشكيل التحالفات في العراق مروراً بالعقد والضغوط الخارجية التي تحول دون تشكيل الحكومة في لبنان وصولاً إلى محاولات أميركية إسرائيلية خليجية حثيثة لتصفية القضية الفلسطينية وإسقاط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين واستمرار الحرب السعودية على اليمن، لتبقى أزمات المنطقة متروكة أميركياً، بينما الروسي من خلال علاقاته مع مختلف الأطراف المؤثرة يسعى جاهداً بكل قوة وثبات وبحنكة ودهاء للوصول إلى خواتيم الأزمة السورية بتأمين عودة النازحين السوريين إلى وطنهم والقضاء على آخر معاقل الإرهاب في منطقة إدلب في الشمال السوري المتاخمة للحدود التركية البرية التي تعتبر رئة التنفس الرئيسية للفصائل الإرهابية في سورية.
إن نتائج قمة هلسنكي كانت ايجابية بين وزيري الخارجية بومبيو ولافروف وأفضت إلى التسليم بالفشل الأميركي في سورية وتسليم مهمة إغلاق الملف السوري للجانب الروسي بشرط ضمان روسي لأمن العدو الإسرائيلي بيد أن تصرفات وتصريحات الإدارة العميقة في أميركا تأتي بشكل مغاير يناقض ما تم الاتفاق عليه بين بوتين وترامب في محاولة للالتفاف على اتفاق هلسنكي.
منذ أشهر وترامب يعلن نيته سحب القوات الأميركية من سورية وتفكيك قواعده العسكرية في التنف والرقة وبأنه لا يرغب في زج القوات الأميركية في معركة خاسره حسب تعبيره أما اليوم فتجده صاغراً أمام ضغوط البنتاغون هرباً من مسلسل الاتهامات الداخلية، فها هو يعطل مبادرة روسية بفتح الحدود الأردنية السورية البرية في منطقة نصيب تسهيلاً لعودة النازحين السوريين كما أنه يعوق إطلاق مشروع إعادة إعمار سورية وقد أعطى توجيهاته ببقاء القوات الأميركية في سورية ليس لمحاربة الإرهاب بل لضمان خروج الإيرانيين وحزب اللـه من سورية كشرط تعجيزي، وها هو ترامب يأمر بعدم تحويل المبالغ الأميركية المخصصة للتنمية في سورية.
إن مجمل الدراسات والتقارير في مراكز ومعاهد الأبحاث الأميركية إضافة إلى أجهزة استخبارات العدو الإسرائيلي جلها اعترفت وأقرت صراحة بانتصار سورية وبهزيمة المشروع الأميركي الإسرائيلي الخليجي فيها وبعدم وجود أي إمكانية من شأنها أن تؤدي إلى قلب الطاولة أو إعادة عقارب الساعة للوراء وذلك نتيجة تكافل وتضامن محور المقاومة مضاف إليهما الصمود الأسطوري للجيش العربي السوري واكتسابه خبرة قتالية نادرة ما يمكنه مواجهة كل صنوف القتال والمعارك وخاصة مع الدعم روسي اللامحدود ما يؤهله من السيطرة على كامل التراب السوري وعلى تطهير آخر معاقل الإرهاب في إدلب والتصدي والدفاع والانتصار في أي معركة أميركية كانت أم غربية أم إسرائيلية.
إن التهويل الأميركي الفرنسي البريطاني بتوجيه ضربة قاسية إلى المراكز السورية تحت حجج واهية لا أساس لها، هو تهويل في محاولة لتحسين ثمن التفاوض مع الروسي ليس إلا، وإن أي عدوان أميركي غربي على سورية لن يكون إلا عبارة عن إخراج سخيف لفيلم أميركي قصير.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن