تداعيات انهيار الليرة التركية على نظام أردوغان
| د. قحطان السيوفي
ذكرت صحيفة «فاينانشيال تايمز» في12 آب 2018 أن الليرة التركية هي أسوأ عملة أداء رئيسية في العالم، إذ خسرت أكثر من 40 في المئة من قيمتها منذ بداية العام، وقبل خمس سنوات كان الدولار يشتري ليرتين، اليوم الدولار يشتري أكثر من 6.6 ليرات.
بعدما ضرب ما سمي الربيع العربي اقتصاديات بعض الدول العربية، امتدت آثاره وتداعياته لتطول الدول التي خططت له، أو دعمته، واستغلته لتحقق فوائد على حساب جثث وجراح الضحايا، وفي مقدمة هذه الدول تركيا التي تتعرض لأزمة اقتصادية كبيرة، مع فشل الانضمام إلى اليورو، والخلافات مع الولايات المتحدة، وتزايد المعارضة، والصدامات مع الأكراد، والتورط العسكري ودعم التنظيمات الإرهابية في سورية، فارتفع معدل التضخم وانخفض التدفق الاستثماري الخارجي، وبدأت الليرة في الانهيار ناهيك عن سياسات الرئيس رجب طيب أردوغان التي أدت إلى نتائج كارثية، وخفضت وكالة «ستاندرد آند بورز» تصنيفها الائتماني لتركيا.
الأزمة الحالية ليست وليدة اللحظة، ولا يمكن أن تعود أسبابها إلى مجرد خلافات سياسية مع الولايات المتحدة الأميركية، لكنها عملياً نتيجة لسياسات إدارة أردوغان، على المستويين السياسي والاقتصادي.
«الفاينانشال تايمز» ذكرت بتاريخ 23 آب الجاري أن «متاعب الليرة التركية إحدى نتائج استيلاء أردوغان على السلطة»، ومن الأسباب الجذرية للاضطرابات التي تعصف بتركيا التآكل المستمر لمؤسساتها، وتجاهل حكم القانون، وتركيز السلطة في يد رجل واحد.
الخبير الاقتصادي في «معهد ماساشوستس للتكنولوجيا» دارون عاصم أوغلو يقول: المشكلة تكمن في تفريغ وإضعاف الهيئات من قبيل البنك المركزي.
بمرور الوقت، بدأ الانضباط الاقتصادي في التفكك، ومع الانخفاض الحاد للاستثمار الأجنبي المباشر، بات معظم التمويل يأتي من تدفقات «الأموال الساخنة» التي تغير الاتجاه دائماً فتعمقت مشكلات تركيا بفعل القيادة التسلطية لأردوغان وآرائه حول أسعار الفائدة، التي وصفها بأنها «أصل جميع الشرور» باعتبارها من الربا.
بعد إعادة انتخابه في حزيران الماضي، شدد أردوغان سلطته على البنك المركزي التركي، ويعتقد المستثمرون أن الرئيس التركي يتحمل مسؤولية الهبوط الحاد في الليرة بسبب تعيين زوج ابنته بيرات البيرق وزيرا للمالية وهو قليل الخبرة ويعتبر جزءاً من متاعب الليرة التركية، واعتبرت «الفاينانشال تايمز» أن البيرق «لا يعدو كونه صفرا على شمال أردوغان».
الشركات التركية ذات الديون المقومة بالدولار واليورو ستواجه صعوبات لخدمة ديونها، وفقاً لبنك «إتش إس بي سي» وتتحمل المصارف والشركات التركية 70 مليار دولار من الديون واجبة السداد من الآن حتى أيار من 2019.
المستثمرون الأجانب سحبوا 771 مليون دولار من الشركات المدرجة في البورصة خلال الربع الأول من 2018، وفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن وكالة التأمين على ودائع الأوراق المالية التركية.
بالمقابل للعوامل الخارجية دورها، فالليرة التركية مكشوفة منذ وقت طويل أمام حاجة تركيا إلى تمويل عجز في الحساب الجاري يصل إلى 6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ومستثمرو المحافظ الاستثمارية الأجانب باعوا أسهما وسندات سيادية وسندات شركات تركية وصلت قيمتها الصافية إلى 3.4 مليارات دولار، وملكية غير المقيمين للأصول المالية التركية انخفضت 41 مليار دولار من 92 مليار دولار في آب 2017 إلى 51 مليار دولار في بداية هذا الشهر وقال الخبير الاستراتيجي في شركة «بلوباي لإدارة الأصول» تيم آش: إن تأثير العقوبات «الأميركية محدود» لكنها كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير كما كان لسعر النفط، الذي ارتفع بأكثر من 40 في المئة على مدى الشهور الـ12 الماضية دوره لأن تركيا مستورد كبير للنفط الخام، إضافة للارتفاع في أسعار الواردات.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تغريدة له ظهر فيها متباهياً بانهيار الليرة التركية قال: «وصلت إلى 6.87 ليرات للدولار الواحد»، وتابع ترامب: «الليرة التركية، متراجعة بسرعة مقابل دولارنا القوي جداً بحسب تقرير صادر عن «إيه بي إن آمرو» مؤخراً، المستثمرون يشعرون بالقلق من أن تركيا قد لا تكون قادرة على تمويل متطلبات التمويل الخارجي السنوي لديها البالغة 218 مليار دولار إضافة إلى العجز الضخم في الحساب الجاري للبلد.
ووفقاً لبيانات البنك المركزي التركي، مطلوبات الشركات التركية بالعملات الأجنبية تتجاوز الآن أصولها من النقد الأجنبي بأكثر من 200 مليار دولار.
انزلاق تركيا نحو الاستبداد له دور في الأزمة، فقد عمل أردوغان على توسيع صلاحياته الرئاسية بعد فوزه بفترة ولاية جديدة رئيسا للدولة وأدى إصرار أردوغان على التدخل في السياسة النقدية وإبعاد الوجوه الاقتصادية التي كانت تحظى بثقة المستثمرين إلى تصاعد المخاوف من بيئة التشغيل في تركيا وحاول أردوغان (تديين) الأزمة، حيث كثف من استثماره للنصوص الدينية لتفسير الأزمة الاقتصادية.
بالمقابل نداءات أردوغان للشعب التركي بتحويل ما لديه من عملات أجنبية إلى الليرة التركية، تبدو غير مجدية بل مثيرة للشفقة مع تنامي الضغوط، السياسية والأمنية، بسبب تدخلات أردوغان في الأزمات المحيطة بتركيا، وخاصة الأزمة السورية حيث دعم التنظيمات الإرهابية وتلوثت أياديه بدماء السوريين.
في إطار تراجع الأحلام العثمانية الجديدة، واضطرار أردوغان لتفكيك تحالفاتها الدولية والإقليمية وإعادة تركيبها، تحت وطأة الأزمة في سورية، وفي ظل تضاؤل الأمل التركي في الدخول على خط الغاز السوري، هذه الوقائع تشير إلى تغير وضعف في معادلات نفوذ أردوغان في الأزمة
السورية على المستويين الميداني والسياسي.
أخيراً، المشهد يشير أن نزيف الليرة التركية، يأتي في سياق الأحداث السياسية التي غيرت تركيبة الاقتصاد التركي، المسألة ليست حرباً اقتصادية تخوضها قوى كبرى ضد تركيا، بقدر ما هي مشكلات خاصة بالتوجهات السياسية والاقتصادية لإدارة أردوغان. التي تظن أن المشكلة لم تتجاوز سعر الصرف، والحقيقة أنها أعمق من ذلك بكثير، وإذا استمرت أنقرة في إنكار الحقيقة والهروب إلى الخارج، ستدفع تركيا ثمناً باهظاً حيث نزيف الليرة سيسلب الحيوية من اقتصاد تركيا، وسيُحدث تداعيات كبيرة على نظام أردوغان ستكون واسعة الانتشار، وستؤدي إلى إثارة سخط عام.