قضايا وآراء

اغتيال المستقبل الفلسطيني

| د. يوسف جاد الحق

روى (إسحاق رابين) في مذكراته، عن معلمه (ديفيد بن غوريون)، قوله إنه لا يندم على شيء قدر ندمه على (عدم قتل من بقي من الفلسطينيين بعد النكبة، وإبان حربهم مع الجيوش العربية). من ثم جاء خلفاؤه من بعده من قادة العصابات الصهيونية لينفذوا وصيته (بأمانة) العمل على قتل من يمكنهم قتله تحت أي ذريعة يختلقونها، إضافة إلى تهجير من يمكنهم تهجيره إلى أوروبا أو إلى الدول العربية، البعيدة على وجه الخصوص، في محاولة للتقليل من أعدادهم بين ظهرانيهم كلما أمكنهم ذلك وبقدر ما يستطيعون.
واستكمالاً لمخططه الشيطاني أوصى بن غوريون ـ وهو مؤسس ما يسمى دولة إسرائيل خلفاءه أولئك بالعمل على بناء المستوطنات في سائر أرجاء الأرض الفلسطينية، بعد مصادرتها من أصحابها، قسراً بطبيعة الحال، ذلك أنه- كما يرى- لا بقاء لإسرائيل ما لم تزرع أرض فلسطين بالمستوطنات لكي تستوعب أفواج مهاجريهم القادمين إليها من شتى أصقاع الأرض في المستقبل.
ولكيلا نذهب بعيداً نعود إلى ذلك السؤال الكبير الخطير: لماذا يتعمدون قتل اليافعين والأطفال، ذكوراً وإناثاً أكثر من غيرهم، سواء في أيام (اللاسلم واللاحرب)، أو في الحروب والثورات والانتفاضات المتعاقبة التي لم تتوقف يوماً وعلى مر السنين التي انقضت منذ أقيم ذلك الكيان اللقيط في ديارنا المقدسة عام 1948؟
الجواب، هو أنهم، على الرغم من عمليات الإعدام والقتل على قدم وساق، وعلى مدار الساعات في الضفة والقطاع، فضلاً عن الحصار الدائم المميت لشعب يعيش في أرضه الموروثة عن أجداده منذ فجر التاريخ، إضافة إلى إجراءات الاعتقال لآلاف مؤلفة من أبناء فلسطين، الذين قد يقضي واحدهم جلَّ عمره، إن لم يكن كله وراء الجدران، على الرغم من ذلك كله يرون أن الفلسطينيين يتكاثرون على نحو مخيف، بنسبة عالية جداً لا تماثل هذه الحالة عندهم. هي إذاً المسألة (الديمغرافية) كما يسمونها. لقد أصبح عدد الفلسطينيين اليوم في فلسطين يناهز ستة ملايين، أي ما يوشك أن يوازي عدد اليهود فيها. هذا مع ملاحظة أن التزايد السكاني عندهم مرجعه إلى الهجرة الوافدة من الخارج، وليس إلى حالة التوالد الطبيعي. لهذا يتصاعد هاجس الخوف لديهم من أن يصبح الفلسطينيون، في يوم قريب أكثرية ساحقة واليهود أقلية مسحوقة. ومما يجدر ذكره أيضاً هو أن عدد الشعب الفلسطيني اليوم في الداخل والخارج يعادل عدد اليهود في العالم كله الذي ثبتت في الإحصائيات أنه لا يتجاوز الخمسة عشر مليوناً فحسب.
وإذا ما أخذ في الحسبان أن الأجيال الفلسطينية الطالعة سوف تكون على قدر من الوعي والعلم والثقافة والمعرفة أكثر مما كان عليه الآباء والأجداد تبزُّ أمثالهم من أبناء اليهود بفعل وسائل العصر الحديثة المتاحة لكل راغب في الإفادة منها، هالهم الأمر وأقض مضاجعهم، إذ أمسوا مدركين أن كيانهم نفسه بات في مهب رياح السموم القادمة بحيث لم تعد المسألة موضع تساؤل كما كان الحال في سالف الزمان (يزول أو لا يزول) وإنما أصبح مسألة وقت: (متى يزول..؟) ليس غير.
إنهم لا يتورعون عن إعدام الشباب والأطفال في الطرقات اليوم والساحات وعلى الحواجز، على مرأى من العالم كله تحقيقاً لهذا الهدف، وما من أحد يحرك ساكناً من دعاة (حقوق الإنسان) مثل (هيومان راتيس ووتس) وغيرها، ومن بعض العرب، حتى لقد بلغ من استشهدوا حتى الساعة في غضون ثلاثة أشهر يربو على ألف وسبعمئة شهيد عدا الجرحى والمعتقلين والمهجَّرين.
وفق حسبة بسيطة يرى المنظرون والحاسبون عندهم أن قتل الفلسطيني الواحد، من هذه الفئة العمرية، يعني قتل العشرات وربما المئات من نسله المنتظر فيما لو بقي حياً، على مدى أربعة أو خمسة عقود قادمة، ما سوف يفاقم الأخطار التي تنتظر وجودهم نفسه على هذه الأرض في المستقبل.. بمعنى أن هذا (الخزان البشري) إن صحت التسمية سوف يكون دوره حاسماً وحاكماً لا محالة في هذه المسألة.
ولاسيما أن الأجيال المتعاقبة، تتربى على ثقافة المقاومة والنضال من أجل يوم التحرير الآتي لاسترداد ما أخذ من آبائهم قسراً، وبفعل القوة الغشوم التي ملكتها إسرائيل ولم يملكها الآباء آنذاك، الذين تعاقبت على بلادهم موجات استعمار متعدد الأشكال لحقب طويلة، بدءاً بالاستعمار العثماني، ثم البريطاني والفرنسي والأميركي.
لكن الآباء الذين مضوا إلى رحاب ربهم لم يموتوا، وإنما بقيت قيمهم وتوجيهاتهم التي أورثوها أبناءهم، وهؤلاء الأخيرون لم ينسوا فلسطينهم، ولن ينسوها أبداً إلى أن تسعفهم الظروف المتغيرة والمتفاقمة يوماً للعودة إليها محرِّرين، مع إخوانهم المخلصين في حلف المقاومة، سورية وإيران ولبنان، أولئك الذين لا يقلون عنهم شوقاً إلى تحرير فلسطين، إيماناً منهم بقدسيتها الجديرة ببذل الدماء والأرواح ابتغاء إحراز النصر على العدو الغاصب عندما تحين ساعته.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن