ثقافة وفن

تأملات مع زخارف الجامع الأموي في دمشق

| منير كيال

إذا كان لنا أن نقف أمام صروح أسلافنا وما خلّفوه من أوابد ترفع الرأس وتنحني لها الهامة، إجلالاً وإكباراً.. فإن من الضرورة بمكان أن يكون للأيدي التي نهضت بهذه الأعمال، لتكون أمامنا وأمام الأجيال على مدى الدهور والعصور، مكانة من الإجلال والإكبار، لأن ما تركوه لنا من الأوابد والمآثر يحاكي التاريخ، ويدل دلالة واضحة على ما كانت عليه أيامهم من فكر نيّر وعقل مبدع وأيدٍ ماهرة.

وإذا كان لنا أن نقف على ما كان عليه الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بن مروان، من همة وسخاء واهتمام بالعمران أكان في دمشق أم في منازل طريق الحج الشامي، بل حتى في المدينة المنورة والمسجد الحرام في مكة المكرمة. ولم يضنّ بذلك على الاطلاق، فقد أنفق الوليد على بناء الجامع الأموي الأموال الطائلة في وقت كانت فيه الدولة الأموية لا تغيب عنها الشمس، لاتساعها وكثرة خيراتها، وكانت مدينة دمشق بذلك الحين بعصرها الذهبي.
استغرق بناء الجامع الأموي نحو عشر سنوات وأنفق الوليد ما أنفق لإنجاز بناء هذا المسجد فحشد لذلك العدد الكثير من البنّائين المعماريين والمرخّمين والنحاتين، من شتى أنحاء الدولة الأموية آنذاك. فقال الناس:
إن الوليد يبدّد أموال بيت المال على البنائين والدهانين. فأجابهم بقوله: يا أهل دمشق.. تفخرون بأربع خصال، ماءكم وهواءكم وغوطتكم وحماماتكم. فأردت أن يكون مسجدكم هذا: هو الخامسة.
فكانت جدران حرم المسجد مكسّوة بالرخام إلى ارتفاع يقارب طول قامتي إنسان تلا ذلك كسوة هذه الجدران بالفسيفساء كما كانت أعمدة هذا الحرم من الرخام الموشّى بالذهب، وكذلك مقاعد هذه الأعمدة، والأمر كذلك بسقف حرم المسجد، إضافة إلى ترصيع المحراب بالجوهر وجعل نوافذ الحرم التي وصل عددها إلى (75) نافذة من الزجاج المعشّق. كما فرش أرض صحن المسجد (باحته) بالرخام مع تشكيلات من الرخام حول البحرة التي تتوسط الصحن وأنحاء تلك التشكيلات من الرخام.
وهذا يجعلنا نقف أمام الأيدي الخلاّقة المبدعة التي أبدعت وقدمت لنا بناء هذا المسجد، على ما كان للخليفة الوليد من حماسة وعطاء لإنجاز هذا البناء ولعل أبدع ما كان بالمسجد من تفنن وروعة الأعمال التي نجم عنها ما يطلق عليه اسم التزيين بالفسيفساء.
وهذه الفسيفساء من مكعبات صغيرة زجاجية أو الحجر الملون، كانت تُكسا بها أرض وجدران المعابد والقصور اليونانية والرومانية والبيزنطية.
وقد عرف الصنّاع السوريون فن الفسيفساء وتعايشوا مع هذا الفن، فأقاموا له الأفران اللازمة.
وقد دلت الحفائر على العديد من الألواح التي كانت من الفسيفساء، ومن هذه الألواح ما هو محفوظة بالمتاحف. ويعود أغلبها إلى ما قبل العهد الأموي، وهذا دليل على مهارة الصناع السوريين بفن الفسيفساء وبراعتهم خلال عصور متعاقبة.
وقد أحب الأمويون فن الفسيفساء وكان لهم ولع به، فأدخلوها بتزيين دورهم وقصورهم وزينوا بها الجامع الأموي بدمشق بشكل لم يسبق له مثيل، حتى أصبحت أعمال الفسيفساء أحد روائع فنّهم بل تراثهم المعماري وقد أصبح يطلق على كل عمل فني متكامل اسم عمل فسيفساء ومهر أبناء بلاد الشام بأعمال هذه الفسيفساء وتوارثوها عن أجدادهم ولئن اشتهر اليونان والرومان والبيزنطيون بأعمال الفسيفساء فإن هذه الشهرة تعود لأبناء بلاد الشام يوم كانت هذه البلاد تحت حكمهم.
وامتازت هذه الأعمال في العهد الأموي بخصائص فريدة كان منها تشكيل مواضيع أعمال الفسيفساء على الجدران وأرض الباحات بما يعبّر عن الفن المبدع لمواضيع الفسيفساء بفن وذوق رفيع، فضلاً عن ذلك: فقد كانت المواضيع المتعلقة بهذا الفن مطبوعة بالطابع الإسلامي، وترتبط بالبيئة والمعتقد والحياة لكونها تشكل إنعكاساً جمالياً متكاملاً لما يشعر به الصانع المبدع من تكوين صادق للحياة.
ذلك إن العاملين بهذا الفن كانوا على درجة فائقة بمحاكاة الطبيعة وألوانها، بحيث إن اللوحة الواحدة من أعمال الفسيفساء كانت تضم ما يزيد على ثلاثين لوناً، منها على سبيل المثال ثلاث عشرة درجة للون الأخضر، وقد برعوا في تصوير الأنهار والبحار والقصور والدور، ورافق ذلك زخارف وكتابات على غاية من الجمال والدقّة وحسن الصنعة.
وكانت هذه الأعمال بالمسجد الأموي بدمشق تغطي جدران المسجد وأروقته حتى إن من الباحثين من اعتبرها: أعجوبة الدنيا وفتنة للناظرين.
كما زينت هذه الفسيفساء الجدار الجنوبي لحرم المسجد الأموي بآيات وسور من القرآن الكريم رصفت بفصوص مذهبة، كما زيّن ما فوق المحراب بمناظر لمكة المكرمة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن