ثقافة وفن

ثقافة الاعتذار

| د. رحيم هادي الشمخي

هناك أشياء هامشية نحب أن نقدم اعتذارنا على أثرها، مثل أن نرتطم بأحدهم بغير قصد، أو نتأخر عن موعد، أو أن يحدث التباس ما، أو أن نهاتف شخصاً بعد منتصف الليل، أما في القضايا الكبرى التي تتعلق بحياة الناس، وبأموال البلد، وبمقدرات المستقبل، فهذه أمور لا يمكن بأي حال من الأحوال الاعتذار عنها، لأننا ببساطة لا نعترف بالخطأ.
لا يوجد في الحقيقة أي تماثل بين الثقافة الشرقية والغربية بشأن الاعتذار، فالغرب يعتبر قواعد الشرف تتصل بالهتك الذي يؤديه الفعل المغاير للأعراف وبالكذب، وحين يتم الإقرار بالخطأ، فإن هذا يستوجب الغفران المعنوي، أي إن الاعتذار الأساس في طلب المغفرة، وهنا يقابل المعتذر دائماً بالصفح باعتبار أنه رجع إلى رشد الشرف المعنوي، أما الاعتذار في الثقافة الشرقية فيعني عدم الرجاحة، والتهور، والتقليل من القيمة، وهذه الأمور لا تلتصق بعلية القوم من حاكم سياسي ومسؤول لأن هؤلاء لهم سلطة، وبالتالي هم في أعلى درجات المفهومية والذكاء، ولديهم العقول الخارقة التي تعرف كل شيء، وتجيد كل شيء.
عنصر الاعتذار لدى الغرب يتعلق بالمطلق في النواحي الإنسانية أي إنه إقرار بالضرر المعنوي، ولان الإنسان هو كائن له ضعفه وهفواته، فإن الاعتذار هو عمل بخاصية آدمية، والغفران هو عمل بخاصية الرحمة الأرضية، أما عنصر الاعتذار لدى الشرق فيتعلق بالضعف، وضياع القيمة، وبالإذلال والأهم من كل هذا، أنه يتعلق بالأعداء، فالشرقي يفكر في الأعداء، في حين الغربي يفكر بالمنافسة.
إن أبرز ما يميز التحصيل الحضاري هو أن الإنسان في عموميته أدرك قضية مهمة وهي كيفية الاستفادة من تراكم خبرة الأعراف، فالاعتراف بالذنب يتصل عند الغرب بالتقليد الديني، ولكن جرى تطويره كتقليد اجتماعي، وهنا تكمن ميزة التحضر حيث إن الإنسان يطور مفاهيمه، ويأخذ من كل شيء لتكوين الحياة باعتبارها محصلة جهود بشرية هائلة.
لا يوجد أي مكسب حضاري لم يكلف البشرية ثمنا باهظا، كل ما نشتريه، أو نأكله، أو نستعمله هو نتاج جهد وتضحيات وحتى دماء، لقد دفعت البشرية ثمنا مهولا كي تصل إلى ابتكار علبة الثقاب، وملايين الناس ماتوا من أجل اختراع (البنسلين)، ومبنى الأمم المتحدة ما كان له أن يقاوم لولا ملايين الأرواح التي زهقت في حروب مجنونة، الشرق فقط هو الذي يقلل من قيمة الأشياء، ويدعي أن الحياة لا يمكن مقارنتها بهيبة حاكم أو رئيس دولة، أو حتى شيخ عشيرة.
هنا في الشرق تداس الإنسانية من أجل أن يبقى الاعتبار الفوقي لناس تغريهم السلطة التي تغذي نوازعهم البربرية، وهؤلاء لا يمكن لهم بأي حال من الأحوال الاعتذار حتى لو فنيت البشرية كلها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن