قضايا وآراء

قرارات مؤجلة

| مازن بلال

لم تبد غير روسيا حماسة بشأن إنهاء ملف إدلب، فقمة طهران كشفت على الأقل نوعاً من الوهن لبعض أطراف الدول الراعية، وبينت من جانب آخر أن عملية التحرير تحتاج إلى نظرة داخلية؛ مرتبطة بالاقتراح التركي تحديداً المتعلق بإدارة محافظة إدلب من «المعتدلين»، فالوهن الذي نتحدث عنه هو في المتاعب التي تواجهها طهران على صعيد ملفها النووي، وقلق تركيا من مسائلها الاقتصادية التي انكشفت فجأة، فهي تريد ورقة إدلب لحسم الكثير من الملفات في علاقاتها مع الولايات المتحدة.
بالتأكيد فإن طهران تنظر بمقاربة مختلفة عن أنقرة لقرار الحسم العسكري، وما يعنيها هو طبيعة التوازن الإقليمي الذي سينتج وما يتبعه من ردود فعل دولية ستطولها بالدرجة الأولى، وهو ما يجعل عملها اليوم يتسم بالكثير من المرونة بانتظار حسم معارك مفتعلة اقتصادية نتيجة العقوبات، وسياسية تظهر اليوم في العراق، على حين تركيا تبحث عن بديل آخر تدفع به حلفاءها في إدلب للحصول على شرعية دولية بإدارة مناطقهم، ولكن في ظل عدم القدرة لمواجهة «جبهة النصرة» يبقى السؤال عن الآلية التي يمكن فيها التحكم بالمحافظة وإدارتها حسب ادعاء أنقرة.
الجانب العسكري يبدو مساراً أساسياً لكنه يحتاج لقاعدة استيعاب لجعل واشنطن تفكر كثيراً قبل اتخاذ أي رد والاعتداء على سورية، وتجبر تركيا أيضاً على استيعاب قاعدة متعلقة بمحاولاتها لجعل إدلب «حديقة خلفية» لها، والأهم ربما بناء ترتيب سياسي يجعل من أي تفكير بإدارة سياسية ترعاها المليشيات أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً.
عملياً فإن سورية تعيش في ظل القرارات الدولية المؤجلة بشأن إدلب واقعاً غير مسبوق في أزمتها المستمرة منذ سنوات، فلأول مرة هناك مساحة سياسية أكبر من العمل العسكري على المستوى الداخلي، ورغم أن هذه المساحة تبدو رمادية نتيجة سنوات الحرب، إلا أنها يمكن أن تتضح أكثر بفعل عمليات التنشيط السياسي الاقتصادي، فبغض النظر عن القرارات الحكومية هناك واقع يظهر بفعل هدوء الجبهات وانتهاء البؤر المسلحة في الكثير من المناطق، وهناك أيضاً جغرافيا واسعة من سورية تحتاج لـ«استثمار» سياسي نوعي إن صح التعبير.
تنظر الدولة إلى كل المساحات المتوافرة من زاوية «السيادة» وهذا أمر طبيعي ومنطقي، على حين ترى بعض الأطراف السياسية، وعلى الأخص تلك التي شكلت منصات تفاوض، أن هناك فرصة للعودة إلى الحل السياسي عبر مسار جنيف، وهذه الرؤية هي بحكم التوازن الدولي، ويبقى التوازن الداخلي مسألة مرتبطة بعمق أي عملية سياسية مستقبلية، فهذا التوازن غير محكوم بهواجس أطراف قمة طهران الأخيرة، وهو في الوقت نفسه مفتوح على الاحتمالات المتوافرة من جميع الأطراف الداخلية، فكل الحديث عن عودة اللاجئين، وإعادة الاستقرار لا يمكن توفيره إلا عبر هذا التوازن الذي تقدمه «قوى الداخل» السوري وهي قوى مجتمعية بالدرجة الأولى.
نحن أمام استحقاق حقيقي في تأكيد أن «العقد الاجتماعي» و«الدستور الجديد» أمر لا تنتجه قرارات في جنيف، بل هو تماماً كما حدث في أول القرن الماضي يتم رسمه عبر العلاقات الداخلية بالدرجة الأولى، وهو ما ميز سورية ابتداء من المؤتمر السوري ومروراً برفض تقسيمها وانتهاء بالجلاء، حيث أصبح العقد الاجتماعي أمراً واقعاً ترسمه حركة المجتمع على الأرض، وقدرة كل ما هو «محلي» على دعم كلية سورية.
في مسألة «إدارة إدلب» من المليشيات وفق اقتراح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ وقدرة المجتمعات المحلية على فرض التعافي السوري تباين شاسع، لأن الرهان الأخير هو داخلي بامتياز وخارج التوازنات الدولية والإقليمية، وهو حالة طبيعية تسير من دون البحث عن مشروعية مكتسبة من أي جهة بما فيها الأمم المتحدة، فالقرارات المؤجلة دولياً تنتهي عند حدود واضحة يبنيها التوازن السوري من الداخل بالدرجة الأولى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن