قضايا وآراء

أيضاً.. الأمن المائي العربي في خطر

| د. قحطان السيوفي

ابتلُيُ العالم العربي بالاستعمار القديم والحديث؛ من الاستعمار العثماني إلى الاستعمار الغربي الأوروبي والأميركي حيث أمعن بكل أشكاله في تقسيمه وتشجيع عوامل التخلف، ودعم هذا الاستعمار، التنظيمات الإرهابية التي استهدفت عدداً من الدول العربية ذات الأنظمة الجمهورية فيما سمي الربيع العربي لتُمارس هذه التنظيمات الإرهابية الممولة من حكام البترودولار العرب، كل أشكال القتل والذبح وتدمير البشر والحجر، يضاف إلى هذه الأخطار التي خلقها وشجعها الاستعمار وحلفاؤه والتي تهدد الأمن القومي العربي، خطر آخر هو الخلل في الأمن المائي العربي.
المياه تختلف عن غيرها من الموارد الطبيعية، فلا توجد بدائل للمياه ومن الصعب استيراد المياه التي تُعَد مورداً محلياً، لفترات طويلة ودائمة.
كانت المنافسة الجيوسياسية الدولية المحتدمة على الموارد الطبيعية سبباً في تحويل بعض الموارد الإستراتيجية إلى محركات للصراع، فقد تحولت موارد المياه العابرة للحدود الوطنية مصدراً نشطاً للمنافسة والصراع، وانطلق سباق محموم لبناء السدود على منابع الأنهار الدولية.
العالم العربي يعاني ندرة المياه العذبة، ويتفاقم الوضع بفعل الانفجار السكاني، وتدهور النظم البيئية الطبيعية، الأمر الذي يلقي بظلاله القاتمة على مستقبل المنطقة وخاصة أن معظم الدول العربية كيانات حديثة، ويبدو أن ندرة المياه تساهم في إدامة حلقة العنف وقد اُسُتغل ارتفاع أسعار الغذاء المرتبط مباشرة بأزمة المياه المتفاقمة في المنطقة فيما سمي الربيع العربي الذي أجج الإرهاب.
العالم العربي أصبح حبيساً داخل حلقة مفرغة؛ إذ تؤدي الضغوط البيئية والديموغرافية والاقتصادية إلى تفاقم ندرة المياه، ما ينتج مزيدا من البطالة، وتغذية للتوترات الاجتماعية والاضطرابات السياسية والتطرف.
وفقا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة، ربما يهبط متوسط معدل توافر المياه السنوي في العالم العربي إلى 460 متراً مكعبا للفرد، وهذا أقل من نصف عتبة الفقر المائي عند مستوى ألف متر مكعب.
الأزمات المائية تحد من قدرة الأفراد والمجتمعات على الحفاظ على سبل عيشهم واستقرارهم السياسي، مع وجود مؤسسات ضعيفة وغير فعالة، وبنية أساسية متضررة – تعمل كمضاعِف للتحديات التي تواجهها الإدارة المستدامة للمياه، كما أن تزايد السكان في المنطقة والتوسع الحضري سببا زيادة الطلب على المياه، إضافة إلى أن الأضرار المناخية تجعل ندرة المياه أشد قسوة.
طعم مياه الشرب في قطاع غزة كطعم مياه البحر، وأدت سنوات من الاحتلال والحصار الإسرائيلي والإهمال، إلى استنفاد طبقة المياه الجوفية الطبيعية في القطاع لتحل محلها مياه البحر ومياه الصرف الصحي، ما يشكل خطراً على الصحة العامة ويُعَد كارثة بيئية.
ينبغي أن تركز التدخلات المتعلقة بإدارة المياه على زيادة الدخل، وبناء نظم غذائية مرنة، وتعزيز الوصول إلى الأسواق ولو منعتهم الأزمة من الزراعة.
بما أن مشاكل المياه والزراعة كلها مشاكل محلية بالأساس، فإن البحث وتطوير التكنولوجيا ونقلها تضفي مزيداً من التحسينات في كفاءة المياه وإنتاجية المحاصيل في المنطقة، وبالنظر إلى حجم التحديات التي تواجه عديداً من البلدان في المنطقة العربية ولكون هذه التحديات مشتركة، فإن العمل الجماعي والشراكات أمران ضروريان، للمساهمة في الاستقرار المحلي والإقليمي.
تقرير «الفاو» والبنك الدولي الذي صدر أخيراً بعنوان «إدارة المياه في النظم الهشة» يناقش كيف يمكن للاستثمارات في المياه أن تساعد على تحقيق الاستقرار من خلال تلبية احتياجات سبل العيش على المدى القصير ومعالجة تحديات الاستدامة على المدى الطويل.
إدخال تكنولوجيات أكثر تقدما لتأمين متطلبات المحاصيل الزراعية، قد يساعد على الحد من استخدام المياه.
لا بد من إيجاد مصدر إضافي لإمدادات المياه، مثلاً تعمل الأردن، بمساعدة أوروبية، على مد خط أنابيب من البحر الأحمر إلى البحر الميت، لنقل مياه البحر الأحمر.
المفارقة أن المياه تدعم الحياة ولكنها قد تكون سبباً للموت عندما تصبح ناقلة للميكروبات أو تتخذ هيئة موجة مد عارمة «تسونامي»، أو فيضانات مفاجئة، أو عواصف، أو أعاصير أي كوارث. بالمقابل الانحباس الحراري يفرض على الإمدادات من مياه الشرب ضغوطاً متزايدة، وقد عملت التغيرات على أساليب الحياة على الزيادة في معدل استهلاك الفرد من المياه، مع تسبب ارتفاع الدخول في تشجيع تغير الأنظمة الغذائية، واليوم أصبح عدد سكان العالم من البشر أكثر قليلاً من سبعة مليارات، ولكن أعداد الماشية لا تقل في أي وقت عن 150 ملياراً، مع تحول الاستهلاك العالمي السريع الارتفاع من اللحوم في حد ذاته إلى محرك أساسي للضغط على المياه.
الآن، تدور بالفعل نزاعات وربما حروب سياسية واقتصادية في العديد من المناطق، وهو ما ينعكس في بناء السدود على الأنهار الدولية، ولنتأمل هنا على سبيل المثال أن بناء إثيوبيا سداً على النيل الأزرق، أثار تهديدات مصرية بشن عمليات عسكرية انتقامية، بينما تركيا تسيطر على منابع نهري الفرات ودجلة ومن ثم تتحكم في المياه المتدفقة إلى سورية والعراق.
الزيادات الكبيرة في الطلب على المياه يحركها النمو الاقتصادي والديموغرافي والإنتاج الإضافي من الطاقة والتصنيع والغذاء إضافة للزيادة السكانية، وقطاع المياه لابد أن يتبنى كل الخيارات غير التقليدية، بما في ذلك تحلية مياه المحيطات والبحار لأن الحياة تتوقف عليها، ويتطلب الأمن المائي في المنطقة العربية الذهاب إلى ما هو أبعد من زيادة الإمدادات المائية المباشرة، إذ يتطلب التركيز على ضمان إدارة مستدامة للموارد، وتقديم خدمات فعالة وبأسعار معقولة، ولاسيما أن مثل هذا النهج المتوازن يعزز القدرة على تحمل الصدمات والأزمات الممتدة، مثل الجفاف أو النزاع أو تدفق اللاجئين، مع معالجة الاحتياجات الفورية مثل الأمن الغذائي، وبناء عليه يجب على صانعي السياسات والممارسين والباحثين في العالم العربي تركيز الاهتمام على دور المياه، واعتماد السياسات التي تحول إدارة وتخصيص الموارد المائية إلى قوة تربط المجتمعات بعضها ببعض، وستبقى السدود التي تبنى على منابع نهر النيل، في إثيوبيا، وعلى منابع نهري دجلة والفرات، في تركيا، خطراً حقيقياً إضافياً يهدد الأمن المائي العربي.
ويبقى الأمن المائي العربي بدوره أيضاً خطراً يضاف إلى الأخطار الكبرى التي تهدد الأمن القومي العربي اليوم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن