ثقافة وفن

لو لم أكن رساماً لكنت شاعراً ولكن لا أعتقد أن شعري يوازي ما أرسم … غنوم لـ«الوطن»: العمل الفني يقول للناظر قف وشاهدني والخط يمسك يدي ويقول لي اجلس وتصوف

| سارة سلامة

هو يكتب ويرسم ويغني ويعشق تفاصيل لوحته المتوجة بالخط العربي، وعن حالة العشق والهيام مع الخط في أعمال الفنان التشكيلي محمد غنوم نتحدث، فهي تجربة مؤثرة من خلال العلاقة الخاصة التي جمعته بالخط منذ تفتح عينيه وعند مسكه القلم بدأ يرسم على ورقة كل خط أمامه ويقلد العناوين، فشكل هذا الحلم هاجساً لتكون له بصمته الخاصة وأسلوبه المتفرد وبدأ يبدع بأجمل الكلمات والعبارات والأشعار والآيات القرآنية، فذابت لوحته ولهاً بشعر نزار وغردت كثيراً في حب الشام، وعند ذكر الوطن اكتنزت الألوان، ووصلت اليوم معارضه الفردية إلى 70 معرضاً فنياً، فأعطى للكلمة قيمة ومعنى وفناً وتشكيلاً تختزن في القلوب قبل العقول، كما كرس في لوحاته أهمية الخط العربي وقدرته على الوصول ونشر ثقافته عالمياً، فنراه يعيش مع الخط ويعطيه من روحه نفساً خاصاً فكان متصوفاً جليلاً يبحث عمن يتبعه ويهتدي إلى عمله الذي طالما أدهش الكثيرين.
زارنا غنوم في صحيفة «الوطن» وأطلعنا على تجربته وتميزه وتأثره وعن جديده وأسلوبه في هذا الحوار:

الخط العربي ونقطة البداية؟
الخط هو رسم للحروف العربية بشكل جميل، ولا أعرف يوماً في حياتي لم أرسم فيه حيث بدأت بالرسم عندما وجدت أمامي أقلاماً وكرتوناً وورقاً، وحينما بدأ الأستاذ يكتب على السبورة في المرحلة الابتدائية كلمات وحروفاً بسيطة شعرت أن بيني وبين هذا الحرف علاقة بدأت بشكل بسيط ثم تطورت فيما بعد إلى تقليد الحروف ومحاكاة بعض أغلفة الكتب والعناوين، كما بدأت أزخرف وأزين الحروف بشكل طفولي، وفي المرحلة الإعدادية ومن ثم الثانوية كنت على يقين أن من واجبي تعلم القواعد والأوزان الخاصة بفن الخط العربي.
وبعدها وجدت أنني أمام فن يحتوي على الجلال والجمال وكانت علاقتي مع الفن بشكل فطري عفوية وجميلة وحميمة، وبدأت أتتلمذ على يد خطاطين مثل حلمي حباب، ومحمود الهواري، وتعلمت القواعد والأوزان، إلى أن تخرجت في كلية الفنون الجميلة وبدأت أفكر كيف أكون طريقة وأسلوباً وتجربة خاصة بي.
وتبلورت تجربتي في المعرض الأول في عام 1979 بدمشق، حيث توزعت آراء الناس بين مؤيد ومعارض وهناك الكثير ممن استخدموا الخط، ولكن كان لتجربتي طابع خاص حيث بدأت بالانتشار وبدأ الاهتمام بهذه التجربة لأنها ترتبط بثقافتنا البصرية كعرب وسوريين ودمشقيين بالإضافة إلى ذلك فإن عناوين اللوحات كانت غير مألوفة.

عشقك للغة العربية واضح من خلال لوحاتك، ماذا تعني لك؟
برأيي ليس هناك انفصام بين نطق الحرف ومدلوله وله علاقة بالتشكيل ونحن حينما نرسم حرفاً عربياً أو كلمة أو مجموعة جمل لها علاقة أيضاً بشخصية الإنسان الذي ينفذ هذه الكلمات ويرسمها ويشكلها ولها علاقة مع بعضها بشكل وثيق، وخطنا جميل وقد انشغل عليه كثيراً لأنه يشكل هويتنا البصرية الأنقى وهو أعطى أكثر بكثير مما أخذ وقد يكون لم يأخذ على حين الفنون الأخرى أخذت وأعطت، وغالباً ما يضع الناس الخطاط في مجال الحرفة وليس في مجال الفن.

هل من الضروري أن تكون الخطوط مقروءة أو مبهمة؟ وأيهما أفضل؟
الكثير من النقاد يقولون إننا مجرد أن نكتب لوحة مقروءة معنى ذلك أن المعنى الأدبي سيطغى وسينسى اللون والتشكيل وهذا الكلام سمعته منذ المعرض الأول ولكني ما زلت أدافع وأستغرب من الذي يقول ممنوع أن يكون الكلام مقروءاً وجميلاً ومشكلاً.
فهم يعتبرون أن عند قراءتها تضعف قيمتها الجمالية وتنشغل الناس بالقراءة وهذا الكلام غير دقيق لسبب على سبيل المثال لفظ «شام» له علاقة بلفظ الشام ومدلول الشام، ولا أراها عيباً أو انتقاصاً وهناك أجانب لا يستطيعون قراءة العربية ولكنهم يحبون اللوحة من الحركة والموسيقا والتشكيل.

الخط العربي اليوم هل هو قابل للتجديد؟
يقول بعض الخطاطين الكلاسيكيين أو القاعديين إن الخط وصل إلى مرحلة الكمال ولا يمكن أن نمشي فيه خطوة واحدة، وبرأيي إنه ما زال الخط منتجاً إنسانياً فهو قابل للتطوير، وهو تجربة مستمرة يحق لنا من خلالها الخروج عن القواعد والأوزان والأشياء المألوفة، وقد يُعجب بعضنا بعمل لا يعجب به آخرون والعمل ذاته قد نمله بعد فترة من الزمن، لأن العمل الفني إذا لم يحاور الناظر له فإنه لا ينجح ويجب ألا يكون مباشراً وفجاً، واللوحة المهمة هي التي لا تعطينا كل شيء دفعة واحدة بل تخبئ أسراراً للغد وللمستقبل.

هل تعتبر أنك عملت ثورة تشكيلية حروفية جديدة؟
أعتز بتجربتي لأنها مؤثرة وهي تشاهد من ناس كثر ويبدون إعجابهم بها.

أسعار اللوحات هل هي مرتفعة عند محمد غنوم؟
قضية الأسعار تتعلق بالتسويق وكلما كبر اسم الفنان يصبح الطلب أكبر وكذلك السعر، ولكن اللوحات الفنية، مهما تواضع سعرها، يبقَ الكثير من الناس لا يستطيعون اقتناءها، والجهد المبذول فيها يحتاج إلى ثمن مقابل، وحقيقة لا تهمني القضية المالية ولكن هاجسي هو أن تحبني الناس وتحب أعمالي لأن الفن التشكيلي ليس لديه الجماهيرية الواسعة في بلداننا.
والناس تقتني أعمالي ومن دون أدنى شك أعيش من وراء الفن أكثر من 40 عاماً في سورية معنى ذلك أن الناس تحب أعمالي.

رسالتك الفنية من خلال الخط العربي؟
الفن بالمجمل هو مجموعة من الرسائل وبمقدار إيماننا بالرسائل التي نحملها وبمضمونها فهي ستصل للناس، وهي رسائل لا ينفع أن يحملها ساع بل يجب أن نحملها نحن وندور بها ونعمل عليها وندق أبواباً حتى تُفتح لنا، وبكل تأكيد فإن هناك وسائط ومساعدين ولكن الرسائل نحن من نكتبها ونضع مضمونها، والفن هو فكر معمق ويحتاج إلى متابعة ومثابرة، وقد حملت رسالتي وقدمتها في الوطن العربي وأوروبا وأميركا والبرازيل والصين، وأقمت معارض فردية وندوات في معظم البلدان العربية ونلت جوائز.

كيف كان استقبال العمل الفني للمتلقي الذي لا ينطق لغة الضاد؟
هذه التجربة تقوم على الحرف العربي ليس بسهولة أن نقنع غيرنا باستقبالها وتلقيها، والموضوع يحتاج إلى هدوء وبالوقت نفسه للعمل بذكاء ونقدم العمل في الوقت المناسب والمكان المناسب، ولدي 8 معارض في ألمانيا وهذا ما تطلب مني المتابعة والمثابرة لأن الجمهور ينتظر منا الجديد، وأهم ما في الفن التشكيلي أن يشدنا العمل الفني ويقول للناظر قف وشاهدني ومعنى ذلك أنه توجد معطيات في اللوحة وهي لا تنادي كل الناس والمسألة لها علاقة بالثقافة البصرية وبقدر مفهومنا للجمال وللون، وسحر الفن التشكيلي أن كل الألوان ضرورية وكل الخطوط ضرورية وكل الأفكار ضرورية لأن ذلك متغير ومتنوع.

اللون الغالب على لوحاتك هو الأزرق، ما العلاقة التي تربطك به؟
قد يكون اللون الغالب على لوحاتي هو الأزرق وأفسر ذلك على أن اللون الأزرق في حياتنا كبشر يمثل أكثر من 70 إلى 80 بالمئة، فهو لون السماء والبحر وهو انعكاس للون السماء الصافية وسواء شئنا أم أبينا فهو لون غالب، وهذا ربما أثر في شخصيتي بشكل غير مباشر، والأزرق هو لون نبيل وراق جداً وسام لا نستطيع أن نراه إلا ونحن ننظر إلى الأعلى وهذا شيء إلهي.
وإلى جانب الفن نحن نمارس مهنة والكثير من الأشياء التي تساعدنا وتحلّ مشاكلنا باستخدام الأزرق في التشكيل، أي إنه لون مساعد أدرسه لطلابي وهو لون بارد لأنه هادئ ولا يتكلم إلا عندما يريد أن يتكلم وعندما نعطيه محفزاً يتكلم ملايين الجمل دفعة واحدة، فإذا أضفنا إليه نقطتين من اللون الأحمر نلاحظ أنه يغلي ويصعد وينزل، إضافة إلى استخدامي كل الألوان لأن كل لون له مكانه وظروفه.

وكأنك تعيش حالة من التصوف مع اللوحة!
بكل تأكيد فإنني أتأمل في هذا الكون الجميل والرائع الذي لا يحمل أخطاء على حين نحن من نصنع الأخطاء، والتأمل الطويل هو أحد ملامح الصوفية وأحد ملامحها، والخط هو من يدفعني ويمسك يدي ويقول لي اجلس وتصوف لأن بداخله فلسفة عميقة لها علاقة بشخصيتنا كعرب، ونحن لا نحب كثيراً الأمور التشخيصية، ولأننا نؤمن بالله لا أحد فينا يستطيع أن يرسم صورة تشبيهية له، لأن ليس كمثله شيء والخط يساعدني في ذلك، والتصوف تعبير صادق عن شخصيتي وتجربتي وهويتي البصرية وليس أنا من افتعلها بل لأنني شبق جداً للجمال جمال الأنثى والوردة وجمال الطفل وأي شيء ولا أستطيع أن أغض البصر عن الجمال.

ارتباط الخط بالقرآن الكريم!
قد يكون أحد أهم أسباب تطور الخط العربي إلى هذه الأشكال والمئات من الأنواع هو أن الخط العربي ازداد الاهتمام به بعد الإسلام لسبب مهم وهو أن القرآن نزل بلسان وحرف عربي، ما دفع الخطاطين إلى إظهار الحرف بأبهى صوره لأنه كلام اللـه ويأخذون رضا اللـه عز وجل وبالوقت نفسه يوازون القوة التعبيرية للكلام بأي شكل وتصبح القوة التعبيرية الشكلية ولذلك عمل الخطاطون مباريات، وكانت هناك بعض اللوحات لا تكاد تقرأ لأن الخطاط لم يفكر إلا بجماليتها ونسيّ قراءتها.
والقرآن الكريم كتب وما زال يكتب وإذا لاحظنا لا يوجد قرآن كريم مطبوع وذلك للتباري بإظهاره بأبهى صورة وهذا لعب دوراً كبيراً بالخط العربي على أن يصبح متطوراً جداً.
والأعمال التي أقدم فيها الآيات تكون واضحة ومقروءة لأنني هنا في محراب الجمال الإلهي ومؤمن أن هذه الرسالة يجب أن تصل دقيقة وصحيحة وليس فقط جميلة.

ارتباط الخط مع الشعر؟
الشعر نتاج إنساني عظيم جداً وإذا لم يكن الإنسان قريباً من الشعر تضعف إنسانيته لأن الشعر يرفع القيمة الإنسانية للإنسان، والصور التي يرسمها الشاعر بكلماته ترفع من قيمة الإنسان، ولو لم أكن رساماً لكنت أتمنى أن أكون شاعراً لكنني لا أعتقد أن الشعر الذي أكتبه يوازي ما ارسم، وأستخدم أشعاراً لنزار قباني في لوحاتي وأعشق نزار وأعشق محمود درويش وأحياناً أتعلق في بيت أو أغنية.

تجربة التشكيل في الخط العربي إلى أين اليوم؟ وما تقييمك للتجربة السورية؟
أفتخر أنني سوري من هذه البلد الجميل، حيث أسس الخطاط بدوي الديراني مدرسة فنية قائمة بذاتها ومدرسة شامية بالخط العربي، وسورية ملأى بالمواهب وأفتخر بهم وهناك أكثر من 25 اسماً على مستوى عالمي.

التجربة السورية عربياً كيف تراها؟
عربياً جيدة جداً وخصوصاً بالخط القاعدي وأكثر الجوائز كانت للذين يعملون بالخط القاعدي، وذلك على مدى سنوات طويلة وهناك مستوى جيد وجيل شاب مهم ومن الملاحظ أن الأكثر أهمية هم السوريون.

بمن تأثرت من الخطاطين؟
أنا متأثر بطبيعة بلدي وهي من تملي عليّ وتؤثر ليس فقط في الأشياء الظاهرية بل في الأشياء الباطنية، أما الأساتذة الكبار الذين تأثرت بهم فهم فاتح المدرس ومحمود حماد لأنني لازمتهم فترة طويلة وكانوا مهمين في حياتي الفنية، أما من الخطاطين ولم أكن تلميذاً عنده فهو محمد بدوي الديراني، وتلميذه فيما بعد محمود الهواري وأحب أن أعيش لحظات مع تجربة الفنانين العالميين لأرى ماذا ستعطيني.

ماذا تحضر من جديد؟
في سيرة حياتي أكثر من 70 معرضاً فردياً إلى جانب مئات المعارض المشتركة وأحضر بعد أشهر لمعرض في دمشق وكل ما فيه رسمته بالأزمة.

إلى ماذا تطمح؟
أطمح في أن أكون قد ساهمت بنقطة صغيرة في محيط المعرفة والفن، وأن يسجل لي التاريخ نقطة صغيرة في النشاط الإنساني لأن أهمية أي إنسان هو بما يضيف وليس بما يستهلك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن