اقتصاد

مقترحات «مداد» لإعادة هيكلة الاقتصاد والإدارة للحدّ من الفساد والهدر … قوى فاسدة وجماعات ضغط ومصالح وأصحاب أيديولوجيات يعوقون الهيكلة

| الوطن

سلّط مركز دمشق للأبحاث والدراسات «مداد» الضوء على إعادة الهيكلة الاقتصادية والإدارية، من حيث الواقع والشروط والتحديات والصعوبات، مقترحاً إستراتيجية عمل وطنية وصفها بالجريئة، وذلك ضمن ورقة «وجهة نظر» نشرها المركز أمس للباحث الدكتور مدين علي (أستاذ جامعي متخصص بالاقتصاد) بعنوان «إعادة هيكلة الاقتصاد والإدارة في سورية: كمدخل إستراتيجي لضبط المال العام والحد من الفساد».
استهل الباحث ورقته (أطلعت عليها «الوطن») بالإشارة إلى أن الاقتصاد السوريُّ الآن يقف على مفترق طرقٍ، إذ يواجه تحدياتٍ مصيرية، وضعت صُنّاع القرار والمسؤولين عن إعداد الخطط والبرامج التنموية في مواجهة مع استحقاقات كبرى، من جهة ما يتعلق بالقدرة على إعداد برامج اقتصادية وسياسية واجتماعية قابلة للتنفيذ، من كل ذلك إلى القدرة على تقديم إجابات مقنعة على تساؤلات باتت مطروحة بقوة، بعد أن استعادت الدولة السورية معظم أراضيها، وبدأت معركة الاقتصاد والتنمية وإعادة الإعمار.
وبحسب الورقة تظهر تحديات اقتصادية كبرى، بالغة التعقيد، بسبب الخسائر الفادحة في الموارد الطبيعية والاقتصادية والبشرية التي تسببت بها الحرب، وما أدت إليه من تطور خطير في حجم العجوزات المالية، ومن ثم في حجم الديون والالتزامات الداخلية والخارجية، الواجبة السداد على الدولة السورية، إلا أن التحدي الأخطر الذي أطلّ رأسه بقوة على مستوى مؤسسات الدولة السورية، والهياكل الإدارية والتنظيمية، هو حالة التبلُّد واللامبالاة التي باتت تستحكم بالكوادر والنخب الإدارية، من كل ذلك إلى ظاهرة التكلس الرهيب التي أصابت مختلف المستويات في الهياكل الإدارية، والبنى المؤسسية التي باتت عاجزةً بأغلبيتها عن تمثّل روح العصر، بل غير قادرة على التكيف مع تحولاته المعرفية والاقتصادية… وغير ذلك، ولا حتى استيعاب منتجاته التقنية والتكنولوجية، التي باتت تفرض نفسها بصورة مكثفة على مختلف السياقات والأطر المؤثرة في أداء البنى الاقتصادية والإدارية ثم في جدواها وفاعليتها.
وفي الواقع، إن تلك الاستحقاقات النوعية الكبرى، لم تكن غائبة عن تصورات الحكومات السورية المتعاقبة التي شخصتها وأدركتها منذ مطلع عام 2000، إذ اتجهت نحو تبني مقاربات مختلفة وإستراتيجيات عمل وبرامج تنفيذية خاصة، من جهة تطوير البنى المؤسسية، ورفع المستوى، وتحسين النوعية والأداء للهياكل الإدارية والمؤسسية والتنظيمية في مختلف الوزارات والمؤسسات.

إستراتيجية جريئة
اقترحت الورقة تحت عنوان «إستراتيجية عمل وطنية جريئة» القيام بعملية مراجعة تحليلية نوعية للكثير من الهياكل والبنى الإدارية والمؤسسية في سورية وتتضمن إعادة تقييم واقع هذه الهيئات والبنى بصورة عاجلة وسريعة على أسس علمية، وعبر مؤشرات قياس كمية ونوعية دقيقة، تساعد في تحديد جدوى هذه الهيئات ومدى ضرورتها في ضوء التحولات الداخلية والخارجية الراهنة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتأكد من أن الظروف التاريخية، والضرورات العملانية والعملية التي استلزمت استحداثها تاريخياً، مازالت مستمرة وقائمة حتى اللحظة الراهنة، سواء أكان ذلك بصورتها التاريخية أم بصيغ نوعية معاصرة مختلفة.
كما تتضمن تحديد دقيق للمردود الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لهذه الهيئات والهياكل الإدارية والإشرافيّة؛ ذلك في ضوء ما انتهت إليه الوقائع والمعطيات بعد سنوات الحرب الثماني التي التهمت إلى جانب الفساد أغلبية الحصاد التنموي والتراكم الرأسمالي، لما يزيد على خمسة عقود من التقشف والصبر والتضحية للشعب السوريّ.
وبينت الورقة أن عملية المراجعة والتقييم للهياكل والبنى الإدارية والمؤسسية ليست غاية بذاتها؛ بل هي مقدمة للبدء بعملية جراحية تنتهي إلى دمج بعض الهياكل والبنى الإدارية والتنظيمية والاقتصادية على أسس علمية، وليس على أسس وقواعد الجمع الحسابي والمحاسبي الاختزالية، وتصفية أو حلّ الكثير من الهياكل والبنى والهيئات الاقتصادية الإدارية والتنظيمية التي يتبين عدم جدواها، والتي لا يمكن أن تكون مجدية.

من الواقع
ذكرت الورقة أن الهياكل الإدارية والقانونية والبنى التنظيمية في سورية تتوزع بين هياكل وبنى قديمة وتاريخية، كان لها دور كبير في تحقيق اختراقات تنموية تاريخية مهمة، ولعبت في الوقت ذاته دوراً مهماً في توطيد دعائم بناء الدولة، وبين هياكل إدارية وبنى تنظيمية أخرى حديثة النشأة والتشكل، جاءت بأغلبيتها في سياق برنامج الإصلاح والتطوير الإداري الذي بدأ منذ مطلع عام 2002، إلا أن عملية تقييم موضوعية جرت انطلاقاً من مؤشرات قياس كمي ونوعي لجدوى الكثير من هذه الهياكل والبنى الإدارية والتنظيمية، ومن ثم تقييم النتائج أو المخرجات النهائية التي انتهت إليها عملية الإصلاح والتطوير، تظهر بوضوح أن أغلبية هذه الهياكل والبنى تعاني بصورة واضحة من الضعف والترهل، وانخفاض مستوى الأداء، بل إن أغلبيتها باتت تشكل تحدياً كبيراً لعملية الإصلاح والتطوير من خلال استنزاف المال العام من دون أي عائد أو جدوى تنموية اقتصادية أو اجتماعية تُذكر، فقد تحول الكثير منه إلى مؤسسات وهياكل، تم تجييرها وتحويلها إلى مراكز نفع ونفوذ خاص لجهات وقوى مختلفة.
إضافة إلى تضخم الجهاز البيروقراطي للدولة من دون أي حاجة أو مسوغات اقتصادية أو مالية أو تنموية لذلك، وتعقيد العمل البيروقراطي وزيادة عدد الحلقات الوسيطة في الدولة، ما أدى إلى هدر المال العام والوقت، وزيادة مساحة دائرة ممارسة الفساد والمحسوبيات والمكاسب والاسترضاء والاستقواء وغير ذلك، والضغط وخلق المزيد من الأعباء على الموارد الاقتصادية، وموارد الموازنة العامة للدولة.
تشير هذه المعطيات إلى أن عملية إعادة الهيكلة للكثير من تلك الهياكل الإدارية والبنى التنظيمية في هذه اللحظة التاريخية التي ستتم فيها إعادة تشكيل وجود الدولة السورية ودورها باتت ضرورة إستراتيجية، لابد من فهمها والتعاطي معها بمسؤولية وطنية وإرادة جمعية، تتحلى بالشجاعة والإحساس بمستوى عالٍ من المسؤولية والأخلاقية.

شروط وصعوبات
بينت الورقة أن عملية إعادة الهيكلة للبنى الإدارية والمؤسسية والتنظيمية، لا تعد من الناحية التنفيذية عملية بسيطة وسهلة، بل بخلاف ذلك، هي عملية مركبة ومعقدة، تحتاج لتوافر مجموعة من الشروط الموضوعية والمتطلبات مثل وجود حامل سياسي نوعي يمتلك الحس السليم والتفكير الخلّاق أو المبدع، وتبني السلطة السياسية العليا في الدولة السورية للمشروع، وتقديم الدعم والمساندة اللازمة لإنجازه، ووجود رؤية وطنية واضحة، وأهداف محددة في الأجل القصير والمتوسط والطويل مبرمجة في أطر زمنية معينة، وتوافر بيئة وفضاء عام إيجابي، يساعد في إطلاق المبادرات وفتح باب المشاركة للجميع ما يساعد في إنجاز المهمة التاريخية.
إضافة إلى وجود إطار تشريعي منسجم ومتماسك ومرن وحيادي، وتوافر قاعدة تقنية وتكنولوجية متقدمة، يمكن الانطلاق منها والتأسيس عليها، وفصل واضح بين السلطات يساعد في عملية تقييم الأداء وقياس مستوى الإنجاز؛ ذلك كمدخل عقلاني وعملاني يساعد في تفعيل أدوات الرقابة والمحاسبة هذا من جانب، وتوفير الشروط الموضوعية لحياة سياسية طبيعية من جانبٍ آخر، وعقلنة الدور التدخلي للجهات الوصائية والرقابية والإشرافية في الدولة، وأخيراً وجود إدارة علميّة رصينة، تتولى عملية إعادة الهيكلة والتغيير، تمتلك القدرة على تحديد البدائل والسياسات التي تساعد في الوصول بدقة إلى الهدف.
أما الصعوبات والتحديات التي ستواجه عملية إعادة الهيكلة فهي كثيرة، بسبب أطراف متعددة وقوى متضررة منها القوى الفاسدة وجماعات الضغط والمصالح والأطراف المستفيدة من استمرار وجود بعض الهياكل والبنى الإدارية والإشرافية القائمة، وبعض أصحاب الإيديولوجيات الذين يعتقدون أن تضخم الجهاز البيروقراطي والتوسع في البنى الإدارية والمؤسسية، يعد مدخلاً لعملية تحديثية، تساعد في إنتاج المشروعية اللازمة لتحديث البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والطامحين للوظيفة العامة، والراغبين في العمل في القطاع العام ومؤسسات الدولة، وبعض الفئات غير المؤهلة علميّاً ولا معرفيّاً التي تجد في استمرار القطاع العام بما هو عليه، فرصة إما للإثراء أو للعيش ولو بالحد الأدنى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن