قضايا وآراء

نظرية «ثوكيديديس».. الصين وروسيا وهيستيريا العقوبات الأميركية

| د. قحطان السيوفي

آخر فصول هستيريا الرئيس الأميركي دونالد ترامب العقوبات التي فرضها على الجيش الصيني، بسبب شرائه من روسيا مقاتلات من طراز «سوخوي-35» والمنظومة الصاروخية «إس- 400».
انتقدت الصين بشدة «ممارسات الولايات المتحدة التي انتهكت بشكل خطر المبادئ الأساسية للعلاقات الدولية. وحذرتها من العواقب». واعتبرت روسيا «شريكاً في التعاون الإستراتيجي للدفاع عن مصالح البلدين والسلام والاستقرار» وقد حذرتها روسيا من «غباء اللعب بالنار» ولوحت بترك الاعتماد على الدولار.
مغامرة جديدة أقدم عليها ترامب، ما يشير، بشكل ما، لتنبؤات خطرة، سبق أن حدد ملامح ما يماثلها المؤرخ الإغريقي القديم «ثوكيديديس» الذي «وصف كيف عمل ظهور أثينا على غرس الخوف في إسبرطة، بحيث جعل الحرب خياراً لا مفر منه».
قرار ترامب المتضمن اعتبار الصين «منافساً إستراتيجياً» يؤكد أن البلدين عالقان في تنافس شديد.
شهدت القرون الخمسة الماضية 16 حالة مماثلة هددت خلالها قوة صاعدة بأن تحل مكان قوة راسخة، وهو محور نظرية ثوكيديديس، هذا ينسجم مع إستراتيجيات قوة الصين التي يرتبط بعضها بالأساليب الصينية الـ36، وهي قائمة تشتمل على تكتيكات سياسية ودبلوماسية وعسكرية يعود تاريخها إلى القرن الخامس قبل الميلاد، الزمن الذي كان يؤرخ فيه ثوكيديديس.
في تشرين الثاني 2012، أصبح تشي جين بينغ الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني، ومن ثم رئيساً للبلاد، في العام التالي عمل تشي على تغيير وجه المستويات العليا للحكومة الصينية وإعادة توجيه البلاد نحو مسار يقوم على زيادة المشاركة العالمية. وهو ما يسمى «الثورة الثالثة»، التي ترسم حدود الرؤية الجديدة – والآثار الاجتماعية، والتكنولوجية، والجيوسياسية المترتبة عليها.
والحرص على وضع قواعد جديدة للحكم الرشيد وثورة مساوية للتحول السياسي الذي رافق عملية الإصلاح والانفتاح في الصين في أواخر السبعينيات من القرن الماضي.
تؤكد معظم الأساليب الصينية على تجنب التحديات المباشرة أمام منافس أقوى، في الوقت الذي تسعي فيه لتقويض تلك القوة من خلال «إستراتيجيات مباشرة»، أكثرها شهرة «هو استبدال أعمدتها بأخشاب فاسدة».
المقصود بذلك هو الإخلال ببنية الخصم من خلال تغيير القواعد التي اعتاد اتباعها. وكان الهدف من ذلك هو تحقيق النصر، من دون حرب.
اليوم أيضاً، غالباً ما تبدو الصين حريصة على التحرك بمرونة نسبية مع أميركا بدلاً من مواجهتها، وبناء هياكل قوية تصبح بدائل للهياكل التي تدعم النظام العالمي الذي تقوده واشنطن.
قال لورنس سمرز، وزير الخزانة الأميركي السابق، في تشرين الثاني الماضي: «ليس مصدر قلقي هو الحرب، بل إلى أي مدى يمكن أن تصمد الأعمدة الأميركية التي تنشأ عليها الحوكمة العالمية. أمام قوة الصين الآخذة في التزايد».
مبادرة الحزام والطريق، التي تعتزم الصين من خلالها تعزيز التجارة مع نحو 70 بلداً بين قارتي آسيا وأوروبا، تجعل بكين تتولى مهمة قيادة نوع جديد من التعددية، هذه المبادرة تديرها «جماعة رائدة» في الحزب الشيوعي، تبدو مختلفة وبعيدة عن المسرحية الأميركية، القائمة على إجراء مفاوضات حول معاهدة تجارة حرة مع البلدان الأعضاء، بل تعد بسلسلة من مشاريع البنية التحتية التي تمولها وتشيدها بكين. تعتبر المبادرة وكأنها هيكل مواز جزئياً لمنظمة التجارة العالمية.
يذكر فرانسوا جودمان وأبيجال فاسيلييه من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وهو مركز فكري: «في أوروبا، تعمل جماعة تقودها الصين وتسمى (16+1) على الجمع بين 11 عضواً من بلدان الاتحاد الأوروبي، وخمسة من البلدان من غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من أوروبا الشرقية والوسطى، في تجمعات تجارية وسياسية»، وقد وقعوا صفقات خاصة بالبنية التحتية تمولها الصين، وستصبح الصين، أكبر اقتصاد في العالم وستحتل قريباً مركز الصدارة في التجارة العالمية حينها لن تكون القضية الرئيسة مرتكزة فقط على كيفية تجنب العالم الوقوع في مصيدة ثوكيديديس، بل كيفية إصلاح أعمدة الغرب الفاسدة التي ترتكز عليها هياكل الحوكمة المختلة».
الرئيس الصيني تشي أرسل طلقات تحذيرية بقوله: العقلية القديمة التي كانت سائدة خلال الحرب الباردة، وعقلية أن يكون هناك إما غالب وإما مغلوب تبدو أنها في غير محلها بصورة متزايدة، العلاقة المعقدة بين بكين وواشنطن سوف تستمر في التدهور والتفكك وإيجاد المخاطر، حملة الرئيس تشي في مكافحة الفساد، ومحاولة حشد «ابتكارات أصلية، وبنية تحتية عالمية تحولت إلى قوة ناعمة، اسُتخدمت للتأثير في المعايير التكنولوجية والسياسية. وترافق ذلك مع إصلاحات دقيقة في الحزب والسياسة الصناعية: وهي إجراءات تحمل آثارا طويلة المدى تنسجم ونظرية ثوكيديديس.
الصين ربما تكون هي البلد الوحيد في العالم الذي يحظى بموارد تمكِّنه من استيعاب خسائر بمثل هذا الحجم على المدى القصير.
من «المفارقات الكبيرة» التي تمتاز بها الصين الشيوعية أن الرئيس الصيني يدافع عن العولمة، ويسعى للتخفيف من الضوابط السياسية المحلية في إطار الاشتراكية ذات الخصائص الصينية.
اليوم الولايات المتحدة والصين عالقتان في حرب تجارية آخذة في التصاعد، في الوقت الذي تتنافسان فيه على النفوذ على كوريا الديمقراطية، الرئيس الصيني تشي يريد أن يكون له نفوذ أكبر في الشؤون العالمية، وزعيم أميركي مزاجي يتبنى شعار أميركا أولاً.
لن يتردد الرئيس تشي في التوصل إلى حل وسط بشأن قيم الاشتراكية الأصلية والمتعلقة بالسيطرة على المعلومات والتخطيط الاقتصادي، من أجل أن يتمكن من تحقيق رؤيته الطويلة الأجل، المتمثلة في جعل الصين قوة عظمى.
من هنا، أتت ردود الفعل الصينية، كما الروسية، على قرار ترامب فرض عقوبات على الجيش الصيني والروسي، على شكل تصريحات غير مسبوقة من جهة حدّتها في التعبير، الناطق باسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، انتقد بحزم وشدة «هستيريا العقوبات الأميركية».
موقفا الصين وروسيا الشريكتان في التعاون الإستراتيجي للدفاع عن «االسلام والاستقرار» من هيستيريا عقوبات ترامب متشابهان بقوتهما ومنسجمان، إلى حد ما، مع نظرية ثوكيديديس حول مستقبل هيكلية أعمدة النظام الأميركي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن