قضايا وآراء

تداعيات أوسلو في ربع قرن

| د. يوسف جاد الحق

ما أحسب أن هنالك من يجهل «أفضال» اتفاقية أوسلو على القضية الفلسطينية وشعب فلسطين! لقد حققت أوسلو «إنجازات» كثيرة منها أنها أضاعت وقت الفلسطينيين على مدى ربع قرن من الزمن، وعطلت مسيرة الكفاح المسلح المقاوم، والعمل الفدائي الذي كانت تنتهجه وتمارسه فصائل المقاومة ومن بينها «منظمة فتح» نفسها، التي يرأسها اليوم نفسه من جاءنا بأوسلو وتداعياتها التي مكنت للعدو الإسرائيلي في الأرض، كما هيأت له سبل التكاثر بالاستيطان واستيراد البشر من شتات يهود الأرض، وفوق ذلك مواصلة احتلاله لما تبقى من أرضنا الفلسطينية وتأمين احتلاله من كل خطر.
ومنها أنها جاءت بعملية تخدير عجيبة حيث ألهت الفلسطينيين بالكلام، والكلام فقط عن «سلام» مزعوم، وعن «مفاوضات» عبثية متواصلة لا تنتهي، معروف لديها سلفاً بأن هذه وتلك إن هي إلا مجرد إلهاء بأوهام لأحلام وآمال لا سبيل إلى تحققها مع عدو كهذا الإسرائيلي، البارع في المناورة، واللعب على الحبال وليس على الألفاظ فقط.
ومنها العمل من السلطة على تسويق إعلامي مضلل هو لمصلحة العدو أولاً وأخيراً، تساعد وتؤازر وتتعاون معه في «تنسيق إعلامي» مع أجهزة العدو ومن معه من فضائيات كثيرة متنوعة، فها هو «السلام» الشامل العادل، القادم على طبق من ذهب، قاب قوسين أو أدنى. وهذه دعوة «لحسن جوار» مع «الجارة» الطيبة «إسرائيل»! وهذا الحلم «بدولة فلسطينية» وهذا «حق عودة» مسموح لنا أن نجتر الحديث فيه ونلوكه إلى يوم يبعثون، برغم انقضاء سبعة عقود على إعلانه وإقراره دونما طائل طبعاً. وكان ذلك كما أثبتت الأيام، لمجرد ذرّ الرماد في العيون، ولإيهام الفلسطينيين بأن العودة قادمة ذات يوم، على حين تعرف السلطة، ويعرف معها العدو، أن هذه العودة أمست بعد كل هذه السنين كحلم إبليس في الجنة! بدليل انقضاء سبعين سنة على صدور القرار الدولي بشأنها وكأنه لم يكن.
حدث هذا وما زال يحدث حتى اليوم، في الوقت الذي تمضي فيه «إسرائيل» في ممارساتها العدوانية بأنواعها، التي خبرناها وعرفناها بدءاً من إقامة مستوطنات تضاعفت أضعافاً مضاعفة كما تضاعف عدد نزلائها من المستوطنين الغرباء المستوردين كالبضاعة من 60 ألفاً في البدايات إلى 750 ألف مستوطن إضافة إلى مضيها في عمليات القتل اليومية والإعدام للناس في الساحات والطرقات، دونما أي مسؤولية تجاه أي جهة كانت، بما فيها سلطة أوسلو نفسها في ظل «التنسيق الأمني» المشرف عليه الجنرال دايتون الأميركي بنفسه، يقيم هناك بمثابة مندوب سامي على فلسطين أيام الانتداب البريطاني. ناهيك عن الاعتقالات بالعشرات يومياً حتى غصّت بهم السجون على كثرتها، حيث يموت بعضهم فيها تعذيباً أو جوعاً أو مرضاً. أما في مسألة الاعتقال الإداري التي لا تصنع السلطة إزاءها شيئاً فحدث ولا حرج.
ومنها تقديم مشاريع سرابية يحسبها الفلسطينيون الظماء إلى الحرية ماء، فإذا هم في نهاية المطاف لا يجدون غير سراب في سراب.
ومنها أنها أنجزت للفلسطينيين حلماً جميلاً بدولة قزم على بضعة أمتار وأشبار من الأرض الفلسطينية وحتى هذه على هونها وهوانها وبلائها لن يسمح السخاء الإسرائيلي ببقائها، ما دام سوف يحصل على البقية الباقية من فلسطين، أي أرض السلطة ذاتها، مجاناً بغير مقابل. وتأكيداً على هذا ها هو نتنياهو يصرح أكثر من مرة بأن هذه الأرض هي «يهودا والسامرة التاريخية»، وأن «من حقه» أن يستعيدها من الفلسطينيين الغرباء الذين أقاموا فيها فترة من الزمن وحسب، فيما هي «أرض الميعاد» قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة.
كما أن أوسلو عززت جرأة إسرائيل على الفلسطينيين والعرب، والعالم أيضاً، في ظل السلطة وسكونها وتنسيقاتها، وعلى هدم القرى الفلسطينية في النقب وفي الجليل وتهجير أهلها منها لتخلو لليهود في «دولتهم اليهودية»، بل جرأتها حتى على أقدس مقدسات المسلمين والمسيحيين في العالم كله في القدس وبيت لحم والخليل وغيرها.
لقد هيأت هذه الاتفاقية الظروف لأطراف عربية للخروج على الإجماع الذي كان قائماً فيما مضى على تحريم التعامل مع العدو الصهيوني، تحت طائلة الوصم لمن يقدم على ذلك بالخيانة لأمته العربية، والإسلامية أيضاً، وحجة هؤلاء كانت لتبرير اقترابهم من العدو، بل ذهاب بعضهم إلى حد اتخاذه صديقاً، وربما حليفاً، بأنهم لن يكونوا «ملكيين أكثر من الملك»، فما دام الفلسطينيون أنفسهم، وهم أصحاب الشأن الأول، يتعاملون ويتعاقدون ويطبعون مع الكيان الصهيوني، فلا ضير عليهم ولا تثريب إذا ما فعلوا الشيء ذاته! عذر أقبح من ذنب، ذلك أن الإنسان النظيف لا يقترب من القذارة إذا رأى آخر يقترب منها.
لقد وصف أحد الغربيين هذه الاتفاقية بأنها أسوأ من وعد بلفور نفسه. ذلك أن بلفور البريطاني الغريب عن فلسطين، والمتدخل بلطجة عليها منحهم الوطن القومي فأقاموا دولة سموها «إسرائيل»! أما «أوسلو» فأتمت المهمة بالتسليم لعصابات اليهود الغازية «بالأرض الموعودة» وبيهودية فلسطين، وهي أمور لم يكن في وسع إسرائيل ومن معها تحقيقها لولا تلك الـ«أوسلو» البائسة.
باختصار شديد، يمكننا القول إن «أوسلو» كانت هبة من السماء، لا بل من جماعة أوسلو، للعدو، مكنته من تحقيق كل ما كان يسعى إليه قبل ذلك، وفي مقدمته اعترافها الكامل بوجوده، وبالتعاون معه، على كل الصعد، وتمكينه من بناء ما شاء من مستوطنات، فضلاً عن إكسابه «شرعية» لطالما حلم بها وسعى إليها. حتى «الميثاق الوطني» المقدس قامت بإلغائه بناء على طلب العدو الإسرائيلي وإرضاء له.
وهكذا فقد تحولت قضيتنا بقدرة ذلك المقرر الشيطاني الموجه لأوسلو وأهلها، إلى مجرد كلام في الهواء.. في وسائل الإعلام، المغرضة المتواطئة.
أوسلو.. تلك اللفتة.. بعد أن يتبين للشعب الفلسطيني كله أنها لم تكن لتوجد أصلاً إلا خدمة للأهداف الصهيونية، وأن الذين وقعوها والقائمين حتى الآن على تنفيذ بنودها ونصوصها التي تكرس الوجود الصهيوني على أرضنا، وتعترف باستيلائه، وبقائه فيها «إلى الأبد» كما صرح مسؤلوها، بل موقّعها نفسه، وتعمل جاهدة على منع أي مقاومة للعدو، نقول: إن الواجب الوطني المقدس يفرض على الشعب الفلسطيني اليوم، وليس غداً، القيام بثورة عارمة على أوسلو والعاملين على تنفيذها. على هذا الشعب إسقاط أوسلو وإبعاد المشرفين على تنفيذها عن العمل السياسي بالمطلق لضلوعهم مع العدو على إنهاء المسألة الفلسطينية، وكأن ما هو قائم الآن في فلسطين هو نهاية المطاف عند هؤلاء. ونتساءل أخيراً هل هؤلاء هم فلسطينيون حقاً؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن