قضايا وآراء

أفكار حول مكافحة الفساد في الأزمات والحروب

| د. قحطان السيوفي

العناق بين السياسة والمال، وفي عصر العولمة الليبرالية الجديدة يُنتج مولودا اسمه الفســـــــاد. في كل دول العالم الغضب الشعبي إزاء الفساد يكمن في قلب السياسة. يعتبر الفساد ظاهرة وبائية انتشرت في كثير من دول العالم نتيجة للظروف والتراكمات التي يعيشها المجتمع من أسبابها ضعف مؤسسات المجتمع، عدم الشفافية وعدم إيضاح حقوق الأفراد وواجباتهم إضافة لدور الموروثات الاجتماعية، والكوارث والأزمات ناهيك عن الأوضاع الاقتصادية نتيجة الحروب والصراعات والحصار الاقتصادي وارتفاع تكاليف المعيشة جميعها تؤدي إلى الفساد.
مظاهر الفساد كثيرة منها الرشوة وإقصاء الكفاءات المؤهلة والمحسوبية وإساءة استخدام السلطة والنفوذ والمحاباة والابتزاز، والاستيلاء على المال العام، ووضع الشخص المناسب في المكان غير المناسب والتهاون في تطبيق الأنظمة والتشريعات.
تدعي كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بأن مؤسساتها سليمة، على أن المصرفيين الغربيين والمحامين وشركات العلاقات العامة، وربما حتى الرؤساء، غالباً ما يكونون مستعدين إلى حد كبير للمشاركة في عائدات الفساد كما جاء في «الفاينانشال تايمز».
في 21 تموز الماضي اتخذ رئيس الوزراء الهندي خطوة جذرية تتمثل في إلغاء نحو 80 في المئة من عملة البلد.
في محاولة للقضاء على الاقتصاد الأسود في الصين، شهدت حملة الرئيس تشي جين بينج لمكافحة الفساد اعتقال أكثر من 100 ألف مسؤول.
فقد الحزب الحاكم في ماليزيا السلطة للمرة الأولى منذ الخمسينيات، بعد اتهامات لرئيس الوزراء، نجيب رزاق، باختلاس مبالغ طائلة وعاد مهاتير محمد التسعيني رئيساً للوزراء ليكافح الفساد.
التكاليف الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة للفساد تؤدي إلى انخفاض النمو وارتفاع عدم المساواة في الدخل. وتقوض الثقة بالحكومة وتضعف المعايير الأخلاقية للمواطنين، والفساد يضعف قدرة الدولة على تعبئة الإيرادات وأداء وظائفها الأساسية.
يفضي الفساد إلى مزيد من التهرب الضريبي. تنخفض الإيرادات التي تحصلها الدولة وتعجز عن تقديم الخدمات العامة مع تزايد المناداة بتطبيق برامج الإصلاحات الهيكلية، وسياسات الانفتاح الاقتصادي من جانب المؤسسات الدولية المانحة مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ومع تزايد حرية حركة تنقل رؤوس الأموال، ونشاط غسيل الأموال، اتسع الفساد، وأصبح السمة المميزة في الدول الغربية ذات الأنظمة الديمقراطية وفي بلدان عالم الجنوب، ولدرجة أن دخل قاموس السياسة الدولية مصطلح «الفساد العولمي».
أصبح الفساد هيكليا ومنتشرا دوليا، جنبا إلى جنب مع غيره من أشكال الإجرام المفسدة كالاختلاس والتلاعب في العقود العامة، والغش الضريبي، وغسل الأموال، ويمكن أن يصل تأثير الفساد إلى رفع تكاليف الدخول إلى الأسواق المالية. ويعمق مشاعر عدم اليقين لدى الشركات ويترتب عليه تكاليف اجتماعية وبيئية باهظة. ويحد من بناء رأس المال البشري. ويزعزع الاستقرار السياسي. يؤدي الفساد إلى إضعاف قدرة الحكومة على أداء وظيفتها، ويشوه قرارات الإنفاق، ويكون الفقراء ضحية انكماش الإنفاق الاجتماعي، كما يؤدي الفساد إلى إضعاف قيم المواطنة. فحين لا يدفع الأثرياء ضرائبهم، يفقد النظام الضريبي شرعيته. وحين يكافأ الغش، يحل الشك محل الثقة، وتتقوض أركان التماسك الاجتماعي. حين يكون الفساد عميق الجذور، يجد كثير من الشباب أنهم بلا مستقبل، بلا هدف يعملون لأجله، بلا قدرة على المشاركة، والمساهمة في المجتمع، ويفقدون حافز التعلم، ويفقدون الأمل، والفساد يضعف قدرة الحكومة على تحصيل الضرائب، ويشوه الإنفاق بإبعاده عن الاستثمارات ذات القيمة مثل الصحة والتعليم.
الفساد بمنزلة ضريبة على الاستثمار، ويقوض الثقة بالمؤسسات، ويتسبب في تفكيك النسيج الاجتماعي.
يصعب قياس التكاليف الاقتصادية التي يسببها الفساد بدقة، ولكن تشير إحدى التقديرات الأخيرة إلى أن التكلفة السنوية للرشوة تراوح بين 1.5 وتريليوني دولار تقريباً، أي نحو 2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي، ووفقا للبنك الدولي، بلغ حجم التدفق السنوي لأموال الفساد والأنشطة الإجرامية والتهرب من الضرائب رقما مذهلا قدره 1.6 تريليون يورو، تمثل منها عمليات التهرب من دفع الضرائب في الاتحاد الأوروبي وحده ما يقرب من 250 مليار يورو.
في زمن الحرب الإرهابية على سورية استغلت بعض الفئات ظروف الحرب الاقتصادية والسياسية والأمنية من أجل خلق ثروات بطرق غير مشروعة، وراكمت ثروات مالية وعينية ضخمة، بدأت عمليات تبييض لتلك الثروات في الاقتصاد السوري على حساب الشعب، وعلى حساب صموده وتضحيات وبطولات الجيش العربي السوري، طوال 8 سنوات من الحرب الإرهابية لمعالجة الفساد. يجب تطبيق إستراتيجيات مضادة للفساد وسن الأنظمة والتشريعات والقوانين والشفافية والوضوح في تطبيقها والجزاءات الصارمة في حق المخالفين، التوعية ووضع عقوبات وجزاءات رادعة وواضحة وتحسين الظروف المعيشية وتوفير القيادات المؤمنة بالتطوير والتي لديها مؤهلات ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب بالاعتماد على الكفاءة والإبداع العلمي وعدم الاعتماد على العلاقات الشخصية والمحسوبية والواسطة والعلاقات الأسرية, وتفعيل برنامج الحكومة الالكترونية، وتبسيط القوانين والتشريعات والأنظمة وجعلها أكثر شفافية والمحافظة على المال العام وعدم استغلاله لتحقيق مآرب شخصية وعدم استغلال النفوذ وإساءة استخدام السلطة واعتماد المعايير الدولية لشفافية المالية العامة. والمعايير الدولية لشفافية ملكية الشركات.
لحرية الصحافة دور رئيس في الكشف عن ممارسات الفساد. وقهر الفساد يتطلب وجود مؤسسات قوية قادرة على البقاء خلال التغيرات في المناخ السياسي، ومحاكم مستقلة وصحافة فعالة يجب تعزيز سيادة القانون. وإنشاء مؤسسات متخصصة ووضع إطار فعال لمكافحة غسل الأموال.
أخيراً، يجب أن يكون القادة أنفسهم أمثلة يُحتذى بها. لتصبح إستراتيجيات مكافحة الفساد فعالة، يتعين أن تتجاوز مجرد إلقاء الفاسدين في السجون، إذ إنها تتطلب إصلاحات تنظيمية ومؤسسية. فالمؤسسات القوية والشفافة والمسؤولة هي «العلاج» الأكثر استمرارية للفساد.
شوي برانديس يقول في جملته الشهيرة، «إن ضوء الشمس أفضل مطهر، ونور الكهرباء أكفأ شرطي»، وقد تكون تجربة مهاتير محمد الأولى في ماليزيا مفيدة لوضع منهج متكامل في الدول التي تعيش أزمات وحروباً لمواجهة الفساد واستعادة بعض الثروات الوطنية التي استأثر بها الفاسدون.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن