قضايا وآراء

مشروع حلّ الدولتين لتصفية القضية

| د. يوسف جاد الحق

تروج جهات كثيرة لما يسمى مشروع الدولتين، إحداهما يهودية والأخرى فلسطينية. ولكي تمر الخدعة الكبرى هذه تتظاهر إسرائيل بالرفض، لكي تصور لعامة الفلسطينيين بأن هذا المشروع، الذي هو في حقيقته من أخطر ما مر بالقضية، هو مكسب للفلسطينيين وقضيتهم، كإنجاز، ما بعده ولا قبله إنجاز، أجبرت إسرائيل عليه، بمعنى أنه لو لم يكن كذلك لما دأبت طويلاً على رفضه، ومن ثم فإن عليهم تلقفه و«العضّ عليه بالنواجذ أيضاً»!
إذن إسرائيل ذاتها وراء المشروع الذي تتظاهر برفضه لمجرد التمويه. والخداع والتضليل بالتمثيل.
فلماذا مشروع الدولتين وما أهدافه؟
هذه التمثيلية الهزلية رسمت بغية التأثير في نفسية وعقلية جمهرة الشعب الفلسطيني ما برحت قائمة حتى الآن، أبطالها ومخرجوها معروفون، يعملون بدأب قل نظيره لإلباس الباطل ثوب الحق، والمحرم ثوب البراءة اعتماداً على التأثير الإعلامي الرهيب من جهة، وعلى سذاجة الجماهير وغفلتها، فيما يظنون، للوصول إلى تنفيذ هذه المؤامرة المسماة «مشروع حل الدولتين»، التي من شأنها إنهاء القضية الفلسطينية، فيما لو كتب لها النجاح والمرور، ولن ينال الفلسطينيون عندئذ غير هذا الفتات الهزيل، والذي لا يعدو نسبة 15 بالمئة من الأرض الفلسطينية الغاصّة بالمستوطنات أيضاً، هي كل ما سيحصل عليه الفلسطينيون عندئذ، وبعد نحو قرن من الزمن منذ بلفور، من الجهاد والكفاح والتضحيات بالمهج والأرواح، والتعرض لشتى ضروب النكال والتعذيب والمهانة، عاصرها دعاة ما يسمى حقوق الإنسان، وحرية الشعوب وهيمنة في أمر تقرير مصائرها، الضالعون مع الزور والبهتان المنصاعون لترغيب وترهيب اليهودية العالمية في بلاد الغرب المعادي لأمتنا على مر العصور.
الهدف الأول: هو الإقرار بالواقع القائم، أي إكساب الكيان الصهيوني الشرعية في كل ما استولى عليه، وسائر ما أنجزه حتى الآن عبر سبعة عقود، وممن هذا الإقرار؟ من أصحاب القضية أنفسهم عرباً وفلسطينيين!
الهدف الثاني: اعتراف الفلسطينيين والعرب، فضلا عن المجتمع الدولي، بيهودية الكيان الإسرائيلي. يترتب على ذلك تلقائياً نسيان فلسطين 1948 وما حصلت عليه إسرائيل حتى عام 1967، ثم استيلاؤها على أراضٍ ومساحات شاسعة من الضفة والقدس أي ذهاب 85 بالمئة من فلسطين العربية إليهم، ما يستدعي بعد ذلك، إخراج سائر الفلسطينيين من «الدولة اليهودية» بمن فيهم إخوتنا عرب 1948، على أنهم ليسوا مواطنين يهوداً.
الهدف الثالث: إلغاء حق العودة «مرة واحدة وإلى الأبد» وإلا فكيف يعود عربي مسلم أو مسيحي، إلى كيان يهودي الصفة والطبيعة؟ وهم الذين سيعملون على إخراج أولئك الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين من فلسطينهم حيث هم الآن؟
هنا لابد أن تتبادر إلى الذهن أسئلة وتساؤلات كثيرة منها: هل يمكن، إذا ما تمّ ذلك، أن نطالب إسرائيل «اليهودية» بعودة فلسطيني عربي واحد ممن غادرها عام النكبة إلى أرضه؟ فما بالك بمن ولد خارجها؟
هل يستطيع أن يحاسبها أحد على جرائمها ومجازرها التي اقترفتها بحق الفلسطينيين، وعرب آخرين، على مدى العقود السبعة المنصرمة؟ القتلى وحدهم يربو عددهم على الملايين، الجرحى أكثر، والأسرى والمعذبون في السجون لا يكاد يحصيهم عدد، بعضهم قضى عمره كله سجيناً، وبعض مات تحت التعذيب.
ماذا عن القدس؟ قبلة المسلمين، الملياران وأكثر، والمسيحيين، عرباً وغير عرب، بلدهم بلد السيد المسيح عليه السلام، سوف تغدو القدس عاصمة بني صهيون وحدهم، ولا علاقة لغيرهم بها من قريب أو من بعيد، ومن ثم يغلق الباب نهائياً أمام أي ادعاء بحق الفلسطينيين في المستقبل، بعد أن أقرت هذا الوضع معاهدات تشهد عليها الهيئات الدولية المعروفة بضلوعها مع الصهاينة وتجاهلها لحقوقنا.
الهدف الرابع: ماذا عن كتل المستوطنات الهائلة المقامة على الأراضي العربية، المسروقة جهاراً نهاراً، على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي والهيئات الدولية، وهي مقامة على أرض الدولة الفلسطينية ذاتها أي على الـ15 بالمئة، وبرغم ذلك فإن يوماً سيأتي يغتصبون فيه البقية الباقية منها إذا ما ظل الحال على هذا المنوال في أيدي المتزعمين، بتكليف أو من دونه، للمآل النهائي للقضية الفلسطينية وما تبقى في أيدي الفلسطينيين من الضفة. أليست هي «يهودا السامرة» كما يزعمون، فهل يتركونها لهم لأجل «سواد عيونهم»؟
لكن في المقابل فإن هناك بوارق أمل في إحباط المخطط الصهيوني لمشروع الدولتين، فعلى الرغم من كل ما صنعته «إسرائيل» إبان الحقبة الماضية، وأعانها عليه دول غربية، ضالعة ومتواطئة وحاقدة على أمتنا، كما أسهم في ذلك، الأمر المؤسف والمؤلم، عرب، حسبوا أن مصالحهم الشخصية في الثروة والجاه والسلطان هي في أن يضعوا أنفسهم في خدمة الأعداء ورهن إشارتهم في تنفيذ ما يطلبون، هكذا زينت لهم أوهامهم، على الرغم من ذلك فإن المتغيرات الجارية، سواء في منطقتنا، أم على صعيد العالم، تبشر بآمال عريضة في أن يوم الخلاص قريب، وأنه لا محالة آتٍ.
هذه الرياح الثورية التي تهب في أكثر من مكان على شرقنا العربي، فضلاً عن وجود قوى ذات شأن في بلدان إسلامية كإيران، كل أولئك مما يبشر بأن الكيان الصهيوني كوجود يقترب من أيامه الأخيرة، الأمر الذي باتوا هم أنفسهم يدركونه، بل أمسوا يشعرون اليوم باهتزاز الأرض من تحتهم، فـ«إسرائيل المخيفة» فيما مضى، أمست «إسرائيل الخائفة» الفزعة في أيامنا هذه.
لا ينبغي أن تفوتنا الإشارة هنا إلى محور المقاومة وما صنعته آنفاً، وما أعدته حتى الآن من قوة أصبحت ترهب الصهاينة أعداء اللـه والإنسانية جمعاء.
خلاصة القول: مشروع الدولتين، يهودية وفلسطينية، يعني: تكريس وجود «دولة يهودية» ذات كيان حقيقي على أرضنا لا ينازعها فيه منازع في المستقبل، مع صورة وهمية لـ«دولة فلسطينية» محرومة من سائر المقومات التي تجعل منها دولة، فهي تكاد تكون بلا أرض وبلا سيادة، فلا جيش لها، ولا سياسة خارجية، ولا استقلال في أي شأن من شؤونها، أمرها في أيدي الإسرائيليين، بداية ونهاية، كيان هزيل بائس، مصيره الاضمحلال ثم الاندثار مع الزمن، وأيلولة الأمر كله بعد ذلك إلى «إسرائيل اليهودية»، فيما لو بقيت على قيد الوجود!
المصير المحتم هو انتهاء الوجود العربي داخل فلسطين، وامتناع العودة لأي ممن هم في خارجها، وتحلل إسرائيل من أي التزام، وعدم مطالبتها بأي حقوق مترتبة عبر السنين، مادياً ومعنوياً وقانونياً، أي كأننا نبارك لها، بدولتها اليهودية ونعفيها، على الملأ، من كل مسؤولية عن كل ما حدث، بمعنى عفا اللـه عما سلف أيها الجيران الطيبون على حد تعبير رئيس السلطة! كرم السلطة الحاتمي بلا حدود، كما تبين منذ أوسلو، السيئة الذكر، حتى الآن!
سوف يتبادر إلى الذهن السؤال التقليدي الذي تجابهنا به تلك الزمرة الداعية إلى الإحباط من منطق آخر «ليس بالإمكان أبدع مما كان»، إيثاراً للسلامة وبأي ثمن أو قولهم ما البديل؟ سؤال تعجيزي أو استسلامي، لكننا رداً على هؤلاء نقول إن البديل والبديل الوحيد هو المقاومة ثم المقاومة، بعد أن هزمت الكيان الإسرائيلي في كل من لبنان وغزة، وما برحت تثير في أوساطه، شعباً وحكومة الرعب، وحسابات المستقبل والمصير غير المضمون لوجوده نفسه والنصر كما يوقن شعبنا العربي كله، لابد آتٍ ولو كره السلطويون، ومن ورائهم أبناء صهيون والضالعون والمتآمرون.
إن مشروع «حل الدولتين»، إنما هو «باطل أريد به باطل»، وهو أحد الكبائر والخطايا في حق فلسطين وشعبها بلا مراء ولا جدال، فالدولة الفلسطينية هذه، التي يبدو عنوانها مغرياً لأناس عاشوا العمر كله يحلمون بدولة لهم كسائر خلق الله، في حقيقتها سم في الدسم، فهذه الدولة سوف تبقى ما بقيت «إسرائيل» تحت رحمتها، يمكنها احتلالها في ساعات، بل انهاؤها في أي وقت يهيئ لها شياطينها وما أكثرهم لفعل ذلك.
أما عند العرب فلسوف يقرّ بعضهم حلاً كهذه للقضية التي أتعبتهم وأرقتهم طويلاً، كما يقولون. التي شغلتهم عن الاستمتاع بخيرات بترولهم وما توفره أمواله من ملذات الحياة الدنيا بطمأنينة وراحة بال!
وأما عن المجتمع الدولي والمحافل الدولية الرازحة تحت الهيمنة الأميركية واليهودية العالمية، فهذه كانت منذ البدايات الأولى ضالعة معهم، منصاعة لرغباتهم، محققة ومنحازة لأهدافهم وتوجهاتهم، كائنة ما تكون، ضاربين عرض الحائط بمسألة انكشافهم أمام الدول والشعوب في سائر أرجاء المعمورة، بأنهم كاذبون في ادعاءاتهم المنافقة حول رعايتهم لحقوق الإنسان، وحرصهم على حرية الشعوب في تقرير مصيرها، ويزعمون أنهم يرفضون مبدأ الاحتلال، ثم يتبين أن هذا كله ليس أكثر من إعلانات مدفوعة الأجر ليست أهدافها وغاياتها بخافية على أحد.
إن مشروع حل الدولتين من أخطر ما مرّ بالقضية من مؤامرات، إنه كارثة الكوارث إذ عند تطبيقه وتنفيذه يتكرس الوجود الصهيوني «كدولة» مشروعة دولياً، ويمتنع على الفلسطينيين المطالبة بأي حق لهم في «الدولة اليهودية» إحدى الدولتين إلى الأبد، الأمر الذي على المخلصين من أصحاب القضية ومن معهم «محور المقاومة« العمل على إحباطه مهما كلف الأمر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن