ثقافة وفن

قلعة صلاح الدين مزيج من الجمال والجلال … عاشت حياة السوريين عبر التاريخ وشهدت ما تعرضت له سورية من محن

| المهندس علي المبيض

تندرج هذه المقالات الأسبوعية التي نقوم بنشرها ضمن منهاج التعريف بالتاريخ السوري الحافل ومواطن قوته ومن ثم تأكيد أصالة السوريين الذين صدروا الحضارة والعلوم والثقافة إلى العالم، حيث شكلت الحضارة التي أسهم السوريون بصناعتها حلقةً رئيسيةً ومهمةً في سلسلة الحضارة الإنسانية، وكنا قد قدمنا في المقالات السابقة وضمن هذا السياق لمحةً موجزةً عن المعالم التاريخية في سورية وتطرقنا خلال ذلك للحديث عن القلاع والحصون كأحد المعالم الأثرية العديدة في سورية التي ما زالت حتى اليوم تشهد على صمود السوريين وشموخهم واستبسالهم في الدفاع عن هذه الأرض الطاهرة بشتى الطرق والأساليب والأدوات، وسعيهم الدائم وعلى اختلاف الحقب التاريخية إلى تحقيق ذلك، ونهدف من خلال استعراضنا لذلك إلى مد جسور التواصل الحضاري والثقافي بين الماضي والحاضر والمستقبل، ومن الضروري أن يعلم الجميع أن أعداء سورية يسعون باستمرار وبشتى الطرق والأساليب إلى تشويه التاريخ السوري وتزويره ونسب الأعمال المشينة له وإلصاق جميع الصفات القبيحة والمذمومة به بهدف بتر الماضي عن الحاضر.
عرضنا في المقال السابق لمحةً موجزةً عن قلعة دمشق كمثال عن القلاع والحصون السورية وأحد أهم معالم دمشق التاريخية وحصنها الباقي حتى اليوم، وهي مثال القوّة والمنعة، التي اكتمل بناؤها خلال الفترة الأيوبية وجعلها القائد صلاح الدين الأيوبي مقراً للحكم ومنطلقاً للأعمال العسكرية التي قام بها، واستفاد منها لفرض هيبة الدولة ومنعتها في وجه الغزاة.
وطالما نتحدث عن صلاح الدين الأيوبي فنجد أنه من المناسب أن نعرض ولو لمحة بسيطة وموجزة عن قلعة صلاح الدين، وهي إحدى قلاع جبال الساحل السوري في مدينة اللاذقية التي تم تشييدها فوق قمة مرتفعة مطلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، تحيط بها الغابات والمناظر الطبيعية في مشهدٍ خلاب بديع، وهي تتربع وسط منطقة تحيط بها الغابات والمناظر الرائعة في مشهد جميل جداً سجلت القلعة على لائحة التراث العالمي لدى اليونسكو في عام 2006 م.
تقع قلعة صلاح الدين على مسافة 33 كم شرقي مدينة اللاذقية و5 كم شرق مدينة الحفة ترتفع410 م عن سطح البحر منتصبة فوق رأس صخري مثلث الشكل ممتدة طولاً، ويحيط بالقلعة واديان عميقان يجري فيهما سيلان يجتمعان معاً تحت قسمها الغربي وهي في منظرها العام أشبه ما تكون بمثلث متساوي الساقين متطاول الشكل ترتكز قاعدته في الجهة الشرقية وتعتبر قلعة صلاح الدين من أكبر القلاع في سورية إذ يبلغ طولها 740 م، وتزيد مساحتها على 50000 م2، أي ضعف مساحة قلعة الحصن تقريباً، تعتبر قلعة صلاح الدين من أهم قلاع القرون الوسطى في سورية، ومن أجمل القلاع العسكرية التي استكمل بناؤها الصليبيون عند احتلالهم للبلاد، وهي آبدة تتحدث عن تاريخها الحافل لتبقى إلى اليوم جاثمةً بين ربوع جبلية خلابة ما زالت شاهدة على هيبة الماضي وثقة الحاضر وأمل المستقبل وتجمع بين الجمال الطبيعي والإبداع العمراني المميز معاً.
تنقسم قلعة صلاح الدين إلى قسمين: قسم شرقي مرتفع يضم أغلب التحصينات المهمة والأماكن الدينية، وقسم غربي منخفض انخفاضاً ظاهراً عن القسم السابق ويضم بعض البقايا البيزنطية، ويحيط به سور لا يزال ظاهراً حتى وقتنا الحالي، وإلى الشرق من القسم المرتفع تم الفصل بين القسمين بخندق منحوت في الصخر.
في عام 1957م، سمّيت القلعة باسم قلعة صلاح الدين وذلك تخليداً لذكرى الأمير صلاح الدين الأيوبي الذي حرر القلعة من الصليبيين عام 1188م، أما التسمية التي كانت تعرف بها القلعة قديماً فهي قلعة صهيون ولا تزال تعرف حالياً عند سكان المنطقة باسم قلعة الصاونة، وحاول بعض الباحثين ربطها بالصهاينة لغايات استعمارية في أنفسهم، وهذا خطأ بالغ وتزوير للتاريخ، إذ أن كلمة صهيون تعني في العربية القديمة (السريانية) الصخرة العالية أو البرج في أعلى الجبل كما أن التسمية التي عرفت بها القلعة خلال القرون الوسطى حسب المصادر التاريخية الإسلامية هي صهيون كانت قد وردت عند المؤرخين الغربيين من فترة أقدم باسم سايون وسيون وسون، وربما بسبب صعوبة اللفظ فقد تم تحوير اللفظ إلى صهيون، ومن ثم فإن تسمية صهيون ليس لها أي علاقة بالصهاينة مطلقاً.
تتميز قلعة صلاح الدين بأنها تحتفظ بمنشآت تعود إلى حضارات متتالية، ولئن كان التاريخ يذكر أن أول هذه الحضارات وأقدمها تلك المنشآت التي تعود إلى العصر البيزنطي في القرن العاشر والتي لم يتبق منها الكثير، إلا أن تاريخ بدء إنشاء القلعة أقدم بكثير من ذلك، فقد قيل إنها كانت تتبع مملكة أرواد ثم آلت إلى الإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد، وإن لم تكن بهذا الشكل الذي هي عليه اليوم، وتتمثل بقايا المنشآت البيزنطية بنواة القلعة الأولى وكنيسة وبعض بقايا المباني المختلفة الوظائف، إلى جانب الخندق حيث تعود بداية حفره لتلك الفترة، مع أجزاء من السور ما تزال ظاهرة في بعض الأماكن، وكان الهدف من القلعة البيزنطية تأمين حماية الطريق باتجاه شمال سورية، وعلى الرغم أنه لم يتم العثور على أي أثر أو مبان من عهد الحمدانيين بالقلعة إلا أن التاريخ يشير إلى أن سيف الدولة الحمداني استولى على القلعة واتخذ منها حصناً من حصونه، واستمر هذا الحال حتى قدوم الصليبيين واحتلالهم لمدينة اللاذقية والمناطق المحيطة بها في أوائل القرن الثاني عشر.
يبدو أن الصليبيين قد عمدوا في البداية إلى تقوية الدفاعات العسكرية من خلال تدعيم المنشآت القديمة، ثم شرعوا ببناء وسائل دفاعية جديدة خصوصاً الأبراج مع البوابات وبقيت القلعة منيعةً بيد الصليبيين طوال ثمانين عاماً، وقد تغيرت وظيفة القلعة بعد وصول الصليبيين فأصبحت لها مكانة سياسية واقتصادية وعسكرية عالية خصوصاً بعد التحصينات والتوسعات التي أضيفت إليها، وغدت إقطاعاً لأحد الحكام الصليبيين ويدعى روبيرت لوليبرو إلى أن حررها القائد صلاح الدين الأيوبي، وتميزت المنشآت التي تركها الصليبيون في القلعة بأنها شاملة وبحالة جيدة وتعتبر أجمل شاهد لدينا على العمارة العسكرية من تلك الفترة، فلا تجد في أي مكان آخر عمارة تضاهيها قوةً، وإنشاءً يضاهيها كمالًا في حسن التنفيذ، وفي عام 1188م، حرر القائد صلاح الدين الأيوبي القلعة من أيدي الصليبيين في ثلاثة أيام، حيث دخلها من الجهة الشماليّة للقسم الغربي في القلعة وذلك بسبب قلة انحدار الوادي المحاذي لذلك القسم مقارنة مع القسم الآخر، حيث كان الصعود من تلك الجهة أسهل للقلعة، وما أن دخلها جيش صلاح الدين وتم تحرير المنطقة من الصليبيين حتى بادر إلى تدعيم القلعة من جديد لا سيما بعد الخراب الذي تعرضت له وخصوصاً في قسمها الشرقي، ولا تزال هناك الكثير من المنشآت المعمارية منذ العصر الأيوبي ظاهرة حتى الوقت الحاضر كالأسوار وبعض الأبراج والمسجد والمئذنة التي ترتفع نحو 17 م، وبقايا القصر وحمامات تتميز بهندسة معمارية جميلة وبرج يطل على القلعة، إلى جانب منشآت صناعية في القسم الجنوبي، كما تم خلال هذه الفترة استكمال حفر الخندق الشرقي، فزادت أهميتها خلال العصر الأيوبي وغدت مقر حكم سياسي وعسكري، وشكلت نقطة حماية للمنطقة بالكامل طوال عهد الأيوبيين حتى عام 1260م، عندما وصل المماليك إلى الحكم وأنهوا عهد الأسرة الأيوبية، قام الظاهر بيبرس بتسلم القلعة في عام 1272م، إلى جانب القلاع والمواقع الأخرى التي كانت تحت حكم الأيوبيين، وكذلك تلك التي كانت لا تزال بيد الصليبيين، ومنها قلعتا الحصن وصافيتا، حيث يتضح أن هناك العديد من البقايا من تلك الفترة ولاسيما في القسم المرتفع، والتي تعود لفترة السلطان قلاوون حيث ظل أفراد الأسرة المملوكية يتناقلون القلعة بينهم بسبب نشوء الخلافات وتنازعهم على السلطة، وكان النائب المملوكي سيباي آخر من حكم القلعة عام 1500م، ولما احتل العثمانيون سورية عام 1516 م، بعد سقوط المماليك هجرت العديد من القلاع ومن بينها قلعة صلاح الدين بسبب موقعها الجبلي الذي يوصف بأنه شديد الوعورة ويصعب الوصول لها وهذا ما جعلها في منأى عن طريق المواصلات حيث وفر لها ذلك الحماية إلا أنه لم يساعدها على أن تلعب دوراً مهماً إذا ما هدد المنطقة خطر ما، وتحولت هذه القلعة التي كانت في يوم من الأيام سكناً وقصوراً للبيزنطيين والصليبيين والعرب إلى خرائب موحشة تتداعى وتنهار يومياً، وبقيت كذلك حتى بداية القرن العشرين، لتتابع بعد ذلك المديرية العامة للآثار والمتاحف والسلطات الأثرية السورية أعمال التنقيب والترميم والتأهيل للموقع لإعادة إحيائه، وهي اليوم تشمخ بكل جلالة وروعة الماضي مرحبةً بكل زوارها، وستكشف أعمال التنقيب العديد من خبايا هذه القلعة وحوادثها التاريخية التي تشهد على بطولات الشعب السوري عبر تاريخه الطويل في وجه الطامعين والمستعمرين.
وختاماً نجد أنه من المهم أن نلفت انتباه القراء الأعزاء إلى أمر في غاية الأهمية وهو أننا عندما نتحدث عن الحروب الصليبية فنحن نقصد بذلك تلك الحروب الاستعمارية التي شنها الغرب على بلادنا والتي كانت تهدف إلى نهب ثروات وخيرات وطننا تحت قناع وغطاء كاذب من الدين، والدين منها براء، وقد وعى السوريون هذا الأمر فهبوا جميعاً لمواجهتهم، وكان العيش المشترك والتاريخ الواحد والمصير الواحد هو السبب الذي دفع كل السوريين وعلى اختلاف أطيافهم وألوانهم لمقاومة الصليبيين بقيادة صلاح الدين الأيوبي.
وهو نفس السبب الذي دفع كل السوريين لمقاومة الغزو العثماني الذي أعاق تقدم السوريين ومنعهم من اللحاق بركب العلم والحضارة وجعلهم يغطون في سبات عميق.
هذا الشعور الواحد والعيش المشترك للسوريين على اختلاف شرائحهم وأطيافهم وألوانهم هو الذي أكسب سورية منعةً وصموداً ضد كل الطامعين بنهب خيراتها.

معاون وزير الثقافة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن