قضايا وآراء

الرعونة الأميركية في العراق.. احرق واهرب

| أحمد ضيف الله

بعد أن كانت التظاهرات الاحتجاجية التي اندلعت في الـ8 من آب الماضي في محافظة البصرة بشكل خاص، والتي انتقلت شرارتها إلى باقي المحافظات العراقية الوسطى والجنوبية، المطالبة بالخدمات العامة الأساسية، كالكهرباء والماء، واستيعاب العاطلين عن العمل، ومحاربة الفساد في دوائر الدولة، قد توقفت بعد وعود حكومية بمعالجتها.
عادت التظاهرات المطلبية العادلة والمحقة، لتنطلق مجدداً من مواقع مختلفة في محافظة البصرة، مطلع شهر أيلول الماضي، احتجاجاً على شح مياه الشرب وارتفاع نسبة الملوحة فيها، حيث بات الوضع الخدمي في البصرة مع ارتفاع درجات الحرارة أمراً مأساوياً لا يطاق.
إلا أن قيام بعض المتظاهرين مساء الـ5 من أيلول الماضي وعلى مدى يومين، بتخريب وإحراق المباني العامة والممتلكات الخاصة، كان أمراً غير مبرر، طارحاً الكثير من التساؤلات وإشارات الاستفهام.
فإذا كان إحراق مبنى المحافظة يمكن تفهمه على أنه ردة فعل غاضبة من المتظاهرين على فساد الإدارة وسوء أدائها، وإذا كان حرق بعض مقرات الأحزاب المشاركة في الحكم، يمكن أن يعني أنه كان احتجاجاً على سوء أداء هذه الأحزاب في إدارة الدولة، فما المنطق في إحراق مقرات أحزاب محلية لا علاقة لها بالحكم، ومقرات قنوات محليّة تلفزيونية وإذاعية محلية؟ وما المعنى من إحراق منازل مسؤولين محليين؟ وما الغاية من استهداف بعض المولات التجارية والمصارف، وعدد من المواقع الإدارية الحكومية؟ وما هو المبرر في منع فرق الدفاع من إطفاء الحرائق، والتعرض لعناصرها بالحجارة؟
إن أخطر ما جرى هو قيام بعض المتظاهرين بإحراق المقر الرئيس لهيئة الحشد الشعبي في البصرة بالكامل، والتوجه بعد ذلك إلى مستشفى «جعفر الطيار» حيث يرقد جرحى ومعاقو الحشد الشعبي، وقاموا بتخريب المبنى وتحطيم الأجهزة الطبية فيه، والاعتداء بالضرب على المرضى والكادر الطبي فيه، من العراقيين والعرب والأجانب، الذين يقدمون خدماتهم لمن واجه تنظيم داعش وتصدى له، ثم توج بعض المتظاهرين هياجهم المُفتعل، باقتحام مبنى القنصلية الإيرانية في مدينة البصرة وأضرموا النار فيه!
إن دفع المتظاهرين للاعتداء على ممتلكات عامة وخاصة، من أجل إشاعة الفوضى، جاء بتوجيهٍ خارجي خبيث، نفذته أيادٍ عراقية خارجة على القانون، وهو ما أكده بيان الهيئة التنسيقية لتظاهرات البصرة في الـ8 من أيلول المنصرم، حيث أعلنت براءتها «من أعمال الشغب والتخريب الممنهج الذي تتخذه مجاميع مدسوسة استغلت الأوضاع في البصرة لتحقيق أهدافها»، وأنها «تنسحب من أي تجمع»، مشيرة إلى أن «الذي يجري الآن خطط ممنهجة لتصفيات سياسية على حساب جراحنا».
وبعد ساعات من حرق مبنى القنصلية الإيرانية في مدينة البصرة في الـ7 من أيلول الماضي، سقطت ثلاث قذائف هاون في منطقة خالية داخل المنطقة الخضراء حيث مقر السفارة الأميركية في بغداد، كذلك سقطت ثلاث قذائف أخرى في أرض غير مشغولة بالقرب من مطار البصرة، حيث تقع القنصلية الأميركية بجوار المطار، من دون أن تسفر العمليتان عن أية خسائر بشرية أو مادية، ما دفع الرئاسة الأميركية لتقول في بيان لها في الـ11 من ذات الشهر: إنّ «الولايات المتحدة ستحمّل النظام في طهران مسؤولية أي هجوم يؤدّي لإصابة موظفينا أو لإلحاق الضرر بمرافق حكومة الولايات المتحدة، أميركا ستردّ بسرعة وبحزم للدفاع عن حياة الأميركيين».
فيما اعتبر المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي أن البيان «يفتقد إلى أي مصداقية وهو مثير للحيرة ومحرض وغير مسؤول»، مؤكداً أن «السياسات المثيرة للتوتر والممارسات التي تنطوي على التدخلات العدوانية للإدارة الأميركية هي السبب الرئيسي لعدم الاستقرار وأعمال العنف وإثارة التوترات والفرقة في المنطقة».
في الـ20 من أيلول الجاري، رُفعت لافتات في شوارع مدينة البصرة الرئيسة بكثافة، كتب فيها «القنصل الأميركي سبب خراب البصرة»، مع انتشار صور ومقاطع فيديو تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي، تجمع القنصل الأميركي تيمي ديفيس بشباب من البصرة كانوا من بين المتظاهرين، وأخرى تجمعه مع قيادات بعض منظمات المجتمع المدني المعروفين، ممن كان لهم تأثير كبير في تأجيج أعمال الشغب في محافظة البصرة.
لقد عمدت القنصلية الأميركية في البصرة على وجه الخصوص، وعلى مدى العام الماضي والحالي، إلى إقامة دورات عدة حملت اسم «مهارات الإرشاد»، وورشات عمل للسفارة الأميركية في بغداد كجزء من برنامج «الزائر الأميركي المحترف» تستهدف طلاب الجامعات وممثلي المنظمات الشبابية، والشبان المتميزين من كل أنحاء العراق.
ومما يبدو أن أميركا بعد الخسارة التي منيت بها على جبهات الحرب الساخنة، حيث تبنت واستثمرت تنظيمي داعش وجبهة النصرة، عادت لتستخدم أسلوبها القديم بالحرب الناعمة في محاولة لاستعادة نفوذها المتهاوي، باستثمار حماس الشباب من خلال تشجيعهم على إنشاء جمعيات ومؤسسات ونواد ذات توجهات إنسانية وخدمية، ومن ثم استثمار ذلك في سلوك مشبوه، الأمر الذي كُشف مؤخراً بعد اضطرابات البصرة، باستثمارها التقصير الحكومي الواضح في تقديم أبسط الخدمات للمواطن العراقي.
وبينما قال السفير الإيراني في العراق ايرج مسجدي خلال مؤتمر صحفي مشترك مع محافظ البصرة أسعد العيداني لدى افتتاحه مقراً جديداً لقنصلية بلاده في المدينة في الـ11 من أيلول الماضي: إن «الاعتداء الذي تعرضت له القنصلية لن يؤثر على العلاقات بين البلدين بحكم المشتركات الكثيرة بينهما وإن كان عدونا المشترك يحاول تخريب هذه العلاقات»، مضيفاً: «لا نريدها أن تتوقف (القنصلية) عن تقديم خدماتها ولو ليوم واحد»، كما لم تطلب السفارة الإيرانية في العراق من رعاياها خلال أحداث البصرة مغادرة المحافظة، أو مغادرة العراق.
أعلنت وزارة الخارجية الأميركية في الـ26 من أيلول الماضي إغلاق قنصليتها في البصرة، و«المغادرة المنظمة» لجميع موظفيها، محذرة الأميركيين من السفر إلى العراق. وقال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو: «لقد أبلغت حكومة إيران بأن الولايات المتحدة ستحمل إيران المسؤولية مباشرة عن أي ضرر يلحق بالأميركيين أو بمنشآتنا الدبلوماسية في العراق أو في أي مكان آخر، سواء أكان ذلك مرتكباً من جانب قوات إيرانية بشكل مباشر أو من جانب ميليشيات مرتبطة بها».
السيد علي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني قال في الـ10 من أيلول الماضي بشأن التهديدات الأميركية لإيران: إن زمن «اضرب واهرب» قد ولى، وكذلك لسان حال العراقيين يقول: إن زمن «احرق واهرب» لن يمر دون حساب. فقد تسببت أحداث البصرة الأخيرة في سقوط «15 شهيداً و190 جريحاً من المتظاهرين والقوات الأمنية بإصابات مختلفة الأنواع والخطورة»، إضافة إلى التسبب في خسائر مادية قدرت «بملايين الدولارات»، وعلى أميركا دفع ثمن رعونتها، ليس فقط عما فعلته في البصرة، إنما عن كل ما قامت به من أعمال قتل وتخريب منذ احتلالها للعراق.
إن الهروب الأميركي من البصرة يؤكد مسؤوليتها عما جرى إذ «يكاد يقول المريب خذوني».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن