التطرف العلماني!
| د. بسام أبو عبد الله
البعض لدينا للأسف لا يقرأ ويناقش ويفسر ويكتب ويؤجج رأياً عاماً دون أدنى معرفة وتدقيق، وأحياناً بلا مسؤولية، وهو الأمر الذي تابعته في ردود الأفعال التي ما زالت تتوالى تجاه المرسوم رقم 16 الخاص بوزارة الأوقاف، وتنظيم النشاط الديني في الجمهورية العربية السورية، وذهب كثير من «الفيسبوكيين» باتجاهات شتى تدعو إلى الرثاء، والحزن الشديد للمستوى التحليلي الذي وصلنا إليه، دون أن نرى على الأغلب، قراءة علمية تحليلية للمرسوم وتفنيداً واعتراضاً على هذه المادة أو تلك، وطرح بدائل منطقية وواقعية تأخذ بالحسبان هواجس الناس التي حُرّكت للأسف بطريقة غرائزية مرعبة، الأمر الذي يطرح سؤالاً كبيراً: لماذا هذا التأجيج الواسع في هذا الوقت بالذات الذي يعيدنا إلى أجواء سادت عام 2011، وكأننا لم نتعلم أي درس، أو نفهم كيف يجب أن تدار الأمور والقضايا الحساسة ذات البعد الوطني؟
سأحاول هنا أن أقدم رأيي الشخصي بهذا الموضوع الحساس من باب جملة الآراء التي طرحت، وتابعناها طوال الأيام الماضية، والهدف ليس تهدئة أحد، أو الوقوف إلى جانب أحد كما قد يفهم البعض أو يفسر، وإنما تقديم رأي يميل إلى الموضوعية، والعلمية حين تناول أمر وطني حساس يهم المجتمع السوري إلى هذه الدرجة، وهذا دور وطني لم، ولن نتخلى عنه في اللحظات الصعبة، ولا في المستقبل.
قرأت نص المرسوم بعناية كبيرة أولاً، ثم أجريت اتصالات مع أصدقاء في مجلس الشعب، وكذلك في وزارة الأوقاف لأتمكن من بناء رأيٍ أقرب إلى الموضوعية، وأستطيع بناءً على ذلك أن أشير إلى جملة نقاط أساسية:
أتفهم كثيراً حساسية المجتمع السوري تجاه الموضوع الديني لأن الحرب الفاشية التي تعرض لها كانت بلبوس ديني مذهبي، وقد كان الرئيس بشار الأسد الأكثر وضوحاً فيما يتعلق بهذا الأمر خلال اللقاء الذي أجراه في 23 نيسان 2014 مع العلماء، ورجال الدين، وأئمة وخطباء المساجد والداعيات، حينما اعتبر أن هناك فشلاً أخلاقياً، واجتماعياً على المستوى الوطني نتيجة وجود مئات الآلاف من السوريين أو أكثر شكلوا حواضن لعشرات آلاف الإرهابيين! وبالمحصلة فإن هذا الفشل هو فشل على المستوى الوطني نتحمل جميعاً مسؤوليته لأنه نتاج للمجتمع السوري، ومن هنا فإن الرئيس الأسد شخّص الأمر بوضوح، وشفافية عالية.
ميز الرئيس الأسد في لقائه آنذاك بين العالم الحقيقي، والجاهل الذي يلبس عمامة العلم، وكذلك بين العالم الصادق والعالم المنافق، وهي حالة قائمة وموجودة، وقد يكون البعض ساهم في نموها وتكاثرها، وبالمناسبة فإننا يمكن أن نضيف إلى كلام سيادته أيضاً «البعثي» الصادق و«البعثي» المنافق والتاجر الصادق والتاجر المنافق وهكذا دواليك، وتكاثر المنافقين هي حالة نمت وتطورت في بيئة لا تؤمن بالحوار والشفافية وطرح الأمور كما هي لإيجاد حلول لها ساعد عليها مسؤولون منافقون وكذابون اعتقدوا أن بناء الوطن يتم بهذه الطريقة فأدى ذلك إلى نتائج كارثية من حيث يدرون أو لا يدرون.
في هذا اللقاء نفسه أشاد الرئيس الأسد بشريحة رجال الدين الذين صمدوا وكان موقفهم وطنياً وأساسياً في صمود الشعب والبلد وأشاد بوعيهم وشجاعتهم ووطنيتهم وإيمانهم وقال هذا هو الرد وهذا هو الأداء الوطني.
إذاً عندما صدر المرسوم 16 فإن الهدف الأساسي له هو تأطير وتنظيم والإشراف على القطاع الديني وعلى الشريحة المتدينة في المجتمع كي لا تترك عرضة للاختراق من قوى خارجية أو إقليمية تجندها لأهداف سياسية وضد المصلحة الوطنية السورية بشكل عام، ومن ثم فإن روح القانون ليست في اتجاه خلق «هيئة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر» لأن هذا الطرح طرح «خرنقعي» يدل على خيال واسع وعلى طرح تحريضي ساذج لإثارة الرأي العام، فسورية بلد متعدد الأطياف ولا يمكن التعاطي مع هذا التنوع بالتطرف من هنا أو من هناك.
لست بصدد الحديث عن تفاصيل المرسوم ولكنني أقول إنه لأول مرة تتبنى المؤسسة الدينية السورية بوضوح عبارة محاربة الفكرين الإخواني والوهابي، وتعتبره مهمة من مهامها، كما أنه لأول مرة على صعيد العالمين العربي والإسلامي يتم إنشاء مجلس فقهي أعلى تشارك فيه كل ألوان الطيف السوري، وهو تطور لافت ومهم جداً سيتيح مستقبلاً مناقشة الكثير من التساؤلات والقوانين التي هي بحاجة إلى التطوير على الصعيدين الديني والاجتماعي.
إن الخطورة التي عاناها المجتمع السوري خلال سنوات الحرب الفاشية من تطرف وإرهاب جعل الحساسية عالية لديه تجاه المسألة الدينية، ولكن الخطورة الأكبر أن يؤدي ذلك إلى تطرف علماني لا يختلف كثيراً عن التطرف الأول، الأمر الذي يغلق مساحات الحوار داخل المجتمع ويجعلنا نتحدث على طريقة «حوار الطرشان» وينشئ لدينا حالة يمكن أن أسميها تطرفاً علمانياً لا يقبل الآخر ويكفره إذا لم يسر على هواه وإذا لم يتفق معه على الرغم من أن كثيرين من متزعمي هذا الاتجاه يجب أن يدركوا أن العلمانية هي أداة لحماية التنوع القائم في المجتمع ورعايته وليست العلمانية المادية التي أنتجت في فرنسا وحدها آلاف المتطرفين، وارتكست في تونس وتركيا لأنها أتت عبر الفرض من الأعلى للأدنى، ولذلك فإن الطريق الصحيح هو توسيع بوابات الحوار على الصعيد الوطني وليست التطرف العلماني أو التوتر أو التحريض، فالحوار هو البوابة الصحيحة لمعالجة الهواجس كافة وشهداء سورية الذين سقطوا في كل بقعة منها، ضحوا من أجل الحفاظ على هذا التنوع الجميل، وليس من أجل تطرف ديني، أو تطرف علماني.
ما أدعو إليه العديد من السوريين أن توقفوا عن المزايدة باسم العلمانية السورية، أو باسم الإسلام، لأن سورية ليست بحاجة إلى صراع بين علماني ومتدين، وإنما بحاجة إلى عقول وشخصيات راقية، محترمة تؤمن بالتنوع الذي لا يستطيع فيه علماني أن يقصي متديناً، أو متدين أن يقصي علمانياً، إنما أن تصب جهود الجميع باتجاه وطني لبناء سورية على أسس جديدة بواباتها الحوار والصراحة، والوضوح دون تطرف أو مغالاة، ودون إقصاء لأحد.
إن البعض الذي يزايد باسم العلمانية يجب أن يفهم ويدرك أن قيادة المجتمعات والدولة، لا تتم من خلال «لغة المضافات»، وردود الأفعال العاطفية، وعبر الفيسبوك، وإنما من خلال العمل الوطني الجماعي، والحوار بين المؤسسات بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، لكن بلغة علميّة موضوعية راقية، بعيدة عن الشخصانية والخيال الواسع الذي ذهب إلى حد اتهام القيادة السورية بالرغبة في إدخال الإسلام السياسي لمنظومة الحكم، وهو خيال مريض على ما أعتقد.
ناقشوا واضغطوا وصححوا واطرحوا ما تريدون، فهذا من حق الناس بالطبع، لكن بلغة علميّة راقية لأن التطرف لا تُحل مشكلاته وتداعياته، بتطرف آخر باسم العلمانية، وهو تطرف يبدو لي أنه قد يكون اللغة الجديدة التي سيتسلل عبرها الخارج لأن يافطة التطرف الديني سقطت، ولا بد من يافطة أخرى.
أرجوكم انتبهوا ودققوا وتحدثوا بمسؤولية وطنية لأن التحديات القادمة كثيرة، وتحتاج إلى عقل رجال دولة وليس إلى عقل رجال فيسبوك.