حدثني عن سورية
د. علي القيم
تحتفل الأوساط الثقافية والأدبية في كثير من دول العالم بذكرى مرور 125 سنة على ميلاد الكاتبة البريطانية الشهيرة «أغاثاكريستي» (1890- 1976) زوجة عالم الآثار «ماكس مالاوان» الذي نقّب في مواقع أثرية كثيرة في سورية وبلاد الرافدين، وكانت زوجته ترافقه في رحلاته، ما جعلها تكتب عن الحياة العادية لسكان الجزيرة السورية.. في الحسكة والقامشلي والرقة وعين العروس وتل أبيض وتل براك وغيرها، وقد جمعت ما كتبته عن مشاعرها والطبيعة البشرية السورية في هذه المناطق والمواقع، في كتاب خاص، يكاد يكون الوحيد بين كتبها الذي لا تتكلم فيه عن رواية أو قصة بوليسية، وأطلقت عليه اسم «تعال حدثني كيف تعيش».
لقد كتبت أغاثا، هذا الكتاب خلال الحرب العالمية الثانية، وصدرت طبعته الأولى عام 1946م، ويذكر أن هذه الكاتبة، كانت تحب حلب كثيراً وتقيم في «فندق بارون» وقد كتبت بعض أجزاء من رواياتها مثل «جريمة في قطار الشرق السريع» على شرفة هذا الفندق.. أما كتاب «تعال حدثني» الذي أهدته إلى زوجها وزملائه في العمل الأثري فقد بدأته بقصيدة جميلة تحية إلى «تل براك» بمناسبة اكتشاف أول قطعة فخار أثرية فيه، ثم تبدأ بالإجابة عن سؤال كان يوجه إليها غالباً، لماذ تحفرين في سورية، وكيف تعيشين في خيمة؟ وتجيب بأسلوب جميل: لقد أحببت العيش مع هؤلاء العمال الذين ينقبون في الموقع، على اختلاف أجناسهم، من عرب وأرمن وأكراد، وهي تجربة عمل تتضمن الكثير من الحب، على الرغم من صعوبات الحياة اليومية، وفيها الهدوء ومتعة القراءة تحت سقف خيمة.. فيها الرفش والمعول والزنبيل، وكيف كانت أواني المطبخ تختلط مع قطع الآثار المكتشفة.. تبدأ «أغاثا كريستي» وصف رحلتها إلى سورية، ورحلتها بقطار الشرق السريع مع «كاليه- إستانبول» هذا القطار الذي يجتاز أوروبا مثل سيمفونية، فيها حركات بطيئة وسريعة، ماراً بجبال سويسرا وسهول إيطاليا إلى يوغسلافيا وتركيا، وعندما وصلت إلى شمال سورية، سألها زوجها، بماذا تفكر؟ قالت: بالفردوس، فقال لها: انتظري حتى تري نهر جغجغ، حيث سنقوم بمسح طبوغرافي لمنطقة الخابور والجغجغ تمهيداً لاختيار التل الذي سيتم التنقيب فيه.. وتبدأ الرحلة في بلد «التاريخ يحتفل فيها» حيث تتوقف في مواقع عدّة لتصل إلى نهر الخابور حيث تحيط به مئات التلال الأثرية، وحيث تل حلف، الذي لو لم أتزوج ماكس مالاوان، لما سمعت به؟… وتزور الميادين ودورا اوريوس، وتصل إلى دير الزور وتتجول حول 50 موقعاً أثرياً، لتصل إلى «تل عجاجة» وتصفه بالتل الكبير والمهم، ولكنها كانت تترقب الوصول إلى مدينة الحسكة حيث يتصل الجغجغ مع الخابور، وحيث الحضارة.. وتقول بلهفة وشوق: كم أنا متحمسة لرؤية الجغجغ الموعود… كانت زيارتنا إلى تل حلف نوعاً من الحج إلى المعبد… في هذا الموقع عثر على تمثال فينوس الجميلة..
وتبدأ رحلة البحث عن التل المنشود، الذي سيقوم بالتنقيب فيه ماكس مالاوان، حتى يصل بعد رحلات مضنية إلى تل براك، الذي وجده تلاً واعداً مع فترات استيطان مختلفة من فترات ما قبل التاريخ وحتى الآشوريين، وتنتقل لسرد رواياتها عن الناس والمواقع الأثرية الأخرى وتتوقف عند عمليات التنقيب في «شاغر بازار».. وتتابع حكاياتها عن حياة الناس وعاداتهم وطرائفهم وتتوقف عند مشاهد جميلة تجدها في كل مكان وتتوقف عند جبل سنجار لتقول: «السلام المطلق رائع.. لقد غمرتني موجة سعادة، وأدركت كم أحب هذه البلاد، وكم هي الحياة كاملة وهانئة».
وتتوقف عند «تل البيدر» حيث نصبت آلاف الخيم السود للبدو القادمين من الجنوب، طلباً للمرعى في الربيع، والمياه متوافرة في وادي العوجة.. وكل شيء يضّج بالحياة… وتعود «أغاثا كريستي» للحديث عن الناس والحفريات التي جرت في مواسم أخرى في «تل براك» حيث عثر على عدد كبير من التماثيل والدمى الجميلة لحيوانات صغيرة من الحجر والعاج… وتودع تل براك وهي حزينة بقولها: لقد تعلقنا بشغف بهذا النهر، الضيق بمياهه الطينية ولونها البني «تقصد نهر الجغجغ».. قرية براك حزينة، سأفتقد النساء وهن يتنزهن في الريف، وهذه الأزهار العظيمة.. وتتابع رحلة العودة إلى عين العروس وتل أبيض وطريق حلب مروراً بجرابلس، ومن حلب إلى رأس الشمرا (أوغاريت) على الساحل السوري، حيث أمضت عيد الميلاد الرائع عند عالم الآثار الفرنسي كلود شيفر وزوجته وأولاده، وتختتم بالقول: «ليس هناك في العالم ما هو أجمل من رأس شمرا، وساحلها الرائع بمياهه الزرقاء، ورماله وصخوره» وتتابع بعد أن عادت إلى لندن وعاشت أربع سنوات من زمن الحرب العالمية «لقد أدركت روعة الحياة المفرحة والمنعشة التي عشتها في سورية، والتي أتمنى أن أحياها ثانية».. ثم تغمض عينيها وتشم حولها الرائحة العطرة للأزهار والبادية الخصبة، وتقول لماكس مالاوان: «لقد كانت طريقة عيش سعيدة جداً».
بقي أن نشير إلى أن كتاب «تعال حدثني كيف تعيش» لم يترجم إلى اللغة العربية إلا في عام 2007م، من توفيق الحسيني، ونشر عن دار الزمان في دمشق، وهناك ترجمة لمقتطفات منه نشرت في بعض المجلات والصحف العربية في فترات متباعدة.