ثقافة وفن

الإنسان في اللوحة حرّ وقادر على تحقيق حلمه … منذر كم نقش لـ«الوطن»: انتشار الثقافة والمعرفة أصبح أسهل.. ما يضعنا أمام مسؤولية البحث

| سوسن صيداوي

«لا أجد انفصالا عن الحلم الحالي، إلا باللهجة إذا صح التعبير، وكأنه زمن واحد ليس له بداية أو نهاية». الجملة تعود للفنان التشكيلي منذر كم نقش، الذي افتتح مؤخراً معرضه الاستعادي في المركز الوطني للفنون البصرية بدمشق.
نعم تحتّم علينا الحياة أن نحلم، وتفرض أن نختار الأدوات والسبل التي سنحقق من خلالها الحلم، عبر اللغة والأفكار التي ستطور المعارف بين كل الناس في المعمورة، ملبية بالنهاية الحاجات للجميع، من هذا المفهوم العاطفي والحالم ينطلق الفنان في رسالته الفنية التشكيلية، فإحساسه العالي لم يختلف بين اللوحة والعمل النحتي، وتأتي كلّها -الدراسات كما يعتبرها- حصيلة بحث دؤوب وتجارب، لم يفكر في عرضها سابقا لكنه وجد من خلالها حلولا ينتقل منها إلى مرحلة الاحتراف. ولوحاته الأخيرة حسب النقاد والمختصين يجب ألا تُفهم على أنها رسم عار، بقدر ما هي أسطورة.

أسطورة منذر متحركة أبداً

بداية أشار رئيس مجلس إدارة المركز الوطني للفنون البصرية غياث الأخرس إلى أن الفنان منذر كم نقش بشغفه الداخلي نحات مثقف نحتيا، ونحات مهم جداً من ثلاثة نحاتين مثقفين نحتيا، هم الأهم في الوطن. ومن المعروف عند النحاتين في العالم هوس الرسم، وكم نقش عنده لغة وحس النحت وعصبية النحات المقاوم للمادة الصلبة، متابعا:ً «إن الطبيعة في لوحات الفنان تحمل مسحة خاصة لا تجعل منها فقط منظراً، بل تحمل مسحة خاصة تجعلها ليس فقط منظراً بل فضاء متحرك يتنفس وهذه روح النحات.
استطاع منذر ألا يمزج بين حس ومعالجة النحات للعمل التصويري مع التصوير، رغم رسومه التكوينية في مرحلة التسعينيات حيث الكتلة والفراغ والبناء. كانت تحمل وتحضر لبدايات المرحلة التشخيصية، هذا المزج ليس بالسهل، لكن ثقافته العالية ودقة فهمه للفنون ساعدتاه على الحوار الدائم والمنفتح بينه وبين عمله عميقا وواعيا».

أهم الاختراعات بدأت بالحلم
في بداية حديثنا مع الفنان منذر كم نقش أشار إلى أن تصنيف المعرض الاستعادي الحالي الذي أقامه المركز الوطني للفنون البصرية، كان بوضع الأعمال وعرضها حسب التصنيف الزمني الذي أنجزت به، وحول عودته إلى الطبيعة قال «أنا أهتم بالطبيعة فهي لي كل شيء حي بما في ذلك الإنسان والحيوان، وقد رمزت للطبيعة بالمرأة التي تعطي وتنجب، فالطبيعة أصل الأرض، لذا ربطت بين الطبيعة والمرأة والأرض من الناحية الكونية، وأردت أن يكون الإنسان في اللوحة حراً له حلمه القادر على تحقيقه، فأهم الاختراعات في العالم بدأت بحلم».
وتابع كم نقش متمسكا بحقيقة مطلقة تقضي بأن كلاً من الحلم والخيال والعلم هما المحرك الإيجابي للوصول إلى حقائق جديدة نطور بها وسائل الحياة مادية كانت أم روحية، مضيفاً: «علينا أن نحلم ونختار بحرية اللغة التي نعبر بها عن أحلامنا من دون معرفة ما يحلم به الآخرون، ثم نتبادل الأفكار التي من شأنها إنتاج معارف وثقافات تعكس متطلبات وحاجات مجتمعاتنا لاستمرار الحياة».
وأضاف: «إن معرفتنا لتاريخ الحضارات عن طريق ما قدمته لنا من خبرات وتجارب اكتشفت عبر فنون العمارة والنحت ولوحات وأدوات متعددة، أخذت طريقها إلى المتاحف المنتشرة في كل مكان من أنحاء العالم، كل ذلك يدلنا على أن لغة الفن كانت ولا تزال لها الأهمية الكبرى في التعبير عن تطلعاتنا إلى دعم إنسانيتنا».
كما يرى أن لغة الفن ساهمت وتسهم حتى الآن في تطوير مجتمعاتنا، متابعا: «وقد أصبحت الثقافة وانتشار المعرفة سهلة بين أيدينا عن طريق اكتشاف الأبجديات، ومن ثم فن الطباعة والأدوات الحديثة منذ اكتشاف الصورة الضوئية، كل ذلك يجعلنا أمام مسؤولية كبيرة في البحث، واختيار اللغة المناسبة لكل منا حسب إمكاناته لتقديم قيم تساعد في دعم الثقافة واستمرار الحياة».

الفنان حضوره غبطوي
من جانبه نوّه الدكتور أسعد عرابي في حديثه بأن الفنان كم نقش سواء كان نحاتا أم مصورا، فإنه يظل صانعا لأحلام سوريالية أو بالأحرى لأشكال أسطورية تعيش في عالم المثل، متابعاً: «منذر هو نتاج هذا الزهد والتعفف عن صغائر الأمور والتفاصيل، والعزوف عن ضجيج العالم، وتخمة العلاقات العامة. فهو الغائب- الحاضر، الرحب والمستقيل والمنسحب حتى حدود العزلة، يتجنب كثرة الإنتاج، بل هو مقلّ في نحته ولوحاته من دون انقطاع، لأنه يسعى جهده أن يحافظ على إيقاعه الطبيعي المتوازن والمغتبط، ويتجنب أن ينساق خلف إغراء الإنتاج الخصب الذي يتعثر به البعض. فنشاطه الإبداعي لا علاقة له بصبوة أو شراهة التسويق. يعكس أسلوبه مرة ثانية طهرانيته الشخصية أو أصالة عزلته الوجودية (وليس الوجدانية)، أو بالأحرى توحّده التصوفي الذي يجعل من تمثاله محرابا قدسيا يشيع الحبور الغبطوي».
وتابع عرابي: «إن اللوحات تعوم فيها أجساد أنثوية بعريها الطهراني في قبة الفلك الأعلى، متخلّصة من آثام الاتصال الحسي، وبالقدر الذي تملك فيه إيحاءها الميثولوجي، تبدو معراجية تصوفية خاصة، طريقة رسم الأنامل الرهيفة، تذكر باستبدال الرضيع لثدي أمه بمص أصبعه، وذلك ضمن حالة ملتبسة تقع بين الطهارة والخطيئة القدسية».

امتداد آني لما بدواخله
اعتبر الناقد التشكيلي عمار حسن أن الفن يحتاج إلى تسليم نفوسنا وأرواحنا ليد الحياة، فالفعل الفني يقتضي الكثير من الاختمار والتراكم، وأن هذا ما نراه في أعمال الفنان كم نقش، متابعاً: «إن ما نراه على سطح اللوحة هو امتداد آني وتراكمي لما حصل ويحصل داخل الفنان، تلك التيارات المتقدة من الخبرات والهواجس، تكون تحت السطح بدرجات عمق متفاوتة كما يحدث في البحر تماما. فالفعل الذي نراه على سطح اللوحة لا ينتمي بالضبط لمصفوفات منطقية بالمعنى الذهني، ولا لتسارعات الفهم المتصل بتسلسل طبيعي، بل لهذا التوق الحدسي متوجا بالفعل انطلاقا من العمق والخصوصية الذاتية، ومن هذا السطح التصويري الذي يصبح توليديا مع ذرات الباستيل، الأمر يشبه مجموع الفعل الفني فترة التسعينيات في تجربة الفنان منذر، إذ بدأت بنقطة ضوء وذرة لون وقطرة ماء بفعل خيال كان يتحرك إلى الدائرة، أي إلى الرحم المتسع المتشابه لكينونة الذرة أو القطرة أو النقطة ومنه بدأت ولادة كون اللوحة».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن