ثقافة وفن

سخريات الظل… عندما يبتعد الأصل الصانع…أسلوب جاد ونتائج ساخرة تقدم واقعاً مؤلماً

 إسماعيل مروة : 

وبعد عقدين من زمن أعود إلى صديقي الناقد القاص الراحل محمود موعد، ذلك الطيف الأنيق إنساناً وإبداعاً، كنت على حدود اتحاد الكتاب العرب في تسعينيات القرن العشرين، وعلى تماس من الجمال في كتابة القصة القصيرة التي كنت أتعشقها وما أزال، كتبت قصصاً ونشرتها في دوريات عدة، ونشرت أكثر من مجموعة، على نفقتي الخاصة، ولم أكن أفكر في أن أتقدم للاتحاد بأي مجموعة لطبعها، لأنني كنت أتهيب من هذا الأمر، وأرى أن النشر في الاتحاد له شروط خاصة فنياً لا تتوافر لكاتب مبتدئ، وفي كل مرة كنت ألتقي د. محمود موعد الأستاذ والقاص يغمرني باحترامه وتشجيعه وغادرت للعمل خارج سورية، وحين عدت كان الدكتور الأنيق الطيف قد رحل عن دنيانا، ولم ألتق به لأعبر عن احترامي لشخصه وأدبه..

تداعيات في مقهى الشرق
وليزداد الألم عندي، فبعد عودتي من سفري فوجئت باستدعاء من اتحاد الكتاب، إدارة المخطوطات، راجعت فإذا بالمسؤول يومها، رحمه الله، يخبرني بأنني سبق أن تقدمت بمجموعة للطباعة بعنوان: «تداعيات في مقهى الشرق» فأبلغته أنني فعلت، ولأنها ضاعت تقدمت بنسخة أخرى وأخذت الموافقة عليها، وقمت بنشرها عام 1994 فقدم لي ورقة كتب عليها ما حدث، وتنازلاً عن حقي بطبعها ضمن منشورات الاتحاد، وعند السؤال عن السبب، وأنا لم أقدمها للطبع في الاتحاد، بيّن لي السيد فريجات أن المجموعة وجهت خطأ ضمن المطبوعات المقدمة للاتحاد، وأن رأياً كان إيجابياً، وآخر كان سلبياً، ما استدعى التأخر فحوّلت إلى قارئ ثالث جزم بصلاحيتها للطباعة في الاتحاد، وهذا سبب تأخر الرأي، وبما أنني طبعتها وانتهى الأمر، فقد استطعت معرفة القارئ، فكان الراحل الدكتور موعد الذي كتب رأياً لا أعرفه في نفسي ولا في كتابتي، وزاد ألمي في عدم وداع هذا الكاتب المبدع والإنسان الحقيقي الذي يتعامل مع النص، ولا يتعامل مع الشخص، وبقيت أذكره في لقاءات الأصدقاء المشتركين، وأفاجأ برأيه في كتابتي، إلى أن التقيت الدكتورة سكينة ابنته التي تفضلت بتقديم مجموعته (سخريات الظل) والتي صدرت في أثناء سفري وغيابي، وبمجرد أن قرأت اسمه على الغلاف عدت لا أقل من عقدين من العمر والود، وأحببت هذه المجموعة، ورغبت في أن أهديه وردة يستحق باقة منها، وهو في رقدته الأبدية.
ولا أريد من وقفتي مع الصديق الراحل أن تقتصر على الجانب الذاتي الخاص، وهو يستحق، لكنني لست من خاصته، ولا أعرف من صفات نبله إلا ما اقتضته اللقاءات العديدة، لذلك أقف عند مجموعته «سخريات الظل» وعند فنه القصصي أكثر من وقوفي الوجداني الذي صار في غنى عنه.

المفارقة المرة والسخرية
ليس مهماً أن يكون هو من اختار، أو تم الاختيار له بعد الرحيل، ففي المقدمة ما يشي بشيء من الالتباس، وفي حاشية أخرى ما يدل على هذا الالتباس، ولكن الحاشية تذكر بوضوح أن الدكتور موعد وضع هذه القصة هنا مع أنها منشورة في مجموعة أخرى، لأنها تنتمي إلى عالمه الذي قام بجمعه، المهم أن القاص وضع نفسه جانباً، ابتعد وترك لظله الماضي القديم أن يسرد ما يدعو إلى السخرية في قصص تقوم على المفارقة، وموعد هو قاص مهموم فكرياً وأدبياً وسياسياً بالقضية الفلسطينية، وأخلص لها الجزء الأهم من حياته القصيرة إبداعاً ودراسة، وفي هذه المجموعة نجد مقاربات مختلفة ذات مساس بهموم الإنسان العربي اليومية، هذه القضايا التي قد تفضح حيناً، وقد تظهر أموراً في أحايين أخرى، ولكنها في كل الحالات تضعنا أمام زيف ما يجري، سواء بين الشخص وظله، أم بين الظل والظل الآخر، ليكشف بسخرية مرة القضايا التي تعصف بنا، وعلاقتنا التفاعلية فيما بيننا، وفيما بيننا وبين الآخر.. ومن هنا تأتي أهمية استرجاع النصوص والأفكار القديمة التي مرت بالقاص، فقام بتدوينها ذات يوم، ومع أنه يرى أن ظله بفعل الأيام هو من يقوم بإطلاعنا، إلا أن ذلك يوحي بالركود، إذ لا تختلف القضايا مع تقدم الأيام، وما من شيء يمكن أن تتجاوزه الأيام بين الأصل والظل!

نحن والآخر
ينهل الكاتب من تجربته في أثناء دراسته الباريسية، ويستعين بمن درس في مكان آخر من العالم أميركا، ومن دون أن يرفع أي لافتة يتحدث عن قضايا وهموم، مثل التمييز العنصري عندما كان يودع باريس مع الصديق الجديد القادم إليها، وكيف قوبل الزنجي بالعنصرية، هذه النظرة التي نالته أيضاً، لأن لونه لا يشبه الأوروبيين، بينما الصديق الجديد القادم من سورية لم ينله شيء لأنه أقرب في سحنته من الفرنسيين، تاركاً النص على علامات استفهام حادة بين الذي يفتح الآفاق لصديقه، وبين الانطباعات لراحل عن باريس وقادم إليها.
وفي قصة القطط يقف عند مفارقات عدة، فهو أمام جار يترك قطة عنده (عند صديقه صاحب رسالته) وزوجه تألف القطة، وتريد أن تفعل فعل الأميركان لتحتفظ بقطة في بيتها، وتبدو لعين كاتب الرسالة المفارقة الواضحة في العناية بالقطط، إلى درجة قد يضطر معها لوضع بيت أهله في البلاد كفالة لحياة قطة ورفاهيتها، ويعود الكاتب ببساطة إلى القطط الشاردة في شوارع البلاد، ليجد أن الأخف عبئاً وكلفة عليه هو أن يفكر مع زوجه الشابة بإنجاب طفل تتسلى به في أثناء غيابه، فالتسلي بطفل أوفر وأسهل من التسلي بقطة!!
البراعة في أنه لم يحمل شعارات ولم يطلق شعارات بموازنة واقع القطط هناك مع واقع الإنسان هنا، خاصة وأنه كاتب قضية، وهذا يمنحه القدرة على تطويل النص وتحميله، ولكن البناء الفني انتصر عند القاص على الرأي الفكري، وترك للإنسان القارئ حرية التفكير والتمعن في كل ما يمكن أن يرتبط بهذه القضية التي تثير السخرية.

الحب وعيده
في 14 شباط يحتفل العالم بعيد الحب، وهذا الاحتفال انتقل إلينا، وصرنا نحتفل به بشتى أنواع التعبير والاحتفال، والقاص يسجل في «قصص واقعية» مجموعة من القصص القصيرة جداً ما يجري في عيد الحب في بلداننا، ولم يختر شخصية واحدة تدور حولها حكاية، وإنما التقط مجموعة من الصورة قدمها في نصوص، فكان العاجز عن شراء الوردة مع قناعة من يحب، وكان الذي اشتراها وهو يبحث عن حب، وكانت من ترميها إلى حاوية قمامة، وكانت الأم، وكانت التجارة، وكانت نظرة الطبقة المخملية التي فعلت ما يعجز عنه الإنسان لعيد الحب، وكل ما تم فعله لم يتجاوز ابتسامة منطفئة… وهو في هذه القصص الواقعية يقدم المعقول واللامعقول، الرفض والقبول لمثل هذه الأعياد، ويسجل مستويات الاحتفاء بعيد الحب، والردود المتعددة حول هذا العيد.. وفي المحصلة نجد رضاه عن الاحتفاء بكل ما يدعو إلى الحب، ولكن أن يكون هذا الاحتفاء تعبيراً عن الذات ونظرتها للحب.

السخرية نتيجة
قرأت القصص بشغف الشوق لكاتبها وشخصها، وبحب قراءة القصة، وإن كان القاص قد عنون بالسخرية، فهو إلى ذلك يقصد، ويتبادر إلى الذهن هنا مدلولات السخرية، وثمة فرق واسع بين السخرية أسلوباً، والسخرية غاية، فهذا الأسلوب لا يقارب أسلوب حسيب كيالي الساخر، وليس المطلوب منه، ولكنه ساخر بالنتيجة، فالنتيجة في السخرية هي التي ختمت مسألة القطة والكفالات المطلوبة في بلاد العم سام لاقتنائها وتربيتها، والسخرية هي التي حكمت القصص الواقعية عن عيد الحب بين ما هو كائن وما يجب أن يكون… مفارقات مرة، ونتائج تستحق المزيد من السخرية التي نجا الكاتب الراحل بعدم استخدام الأسلوب الساخر والتعابير الساخرة، فقد تكون النتائج عند أسلوب ساخر فجائعية في الحدث، لكن السخرية هنا أو سخريات الظل قبل رحيل الكاتب وبعد الرحيل هي ملامسة الألم الناعمة لتقديم مفارقة مختلفة.
وبعد: هذه مجموعة للقاص الدكتور محمود موعد تستحق منا وقفة، وخاصة أن قصصاً عديدة فيها تبدو للقارئ، وكأنها كتبت اليوم أو بالأمس القريب، وهذا شأن المبدع الذي يتلمس الأوجاع والقضايا ليترك ظله بعد الرحيل يقارب الإنسان ويدله على ما يمكن أن يكون.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن