ثقافة وفن

ارتحال إلى اللانهاية!

| إسماعيل مروة

من رحلة الظعائن، إلى الارتحال في طلب العلم، إلى الفتوح والغزوات، إلى الرغبة في توسع الدولة على حساب الدولة الآيلة للسقوط، من دون حساب أن هذه الدول ستنهض ذات يوم وترد الغزو بالغزو، والاحتلال بالاحتلال.. من رحلة إلى رغبة قضى العربي حياته من دون أي نوع من الاستقرار.. وبعد حين استيقظت الشعوب، فصار العربي مكرهاً على الارتحال، يلاحقه قدر الغربة من مكان إلى آخر، لا يستقر في مكان حتى يأتيه منادي الرحيل أن انهض من جديد، لتعيش غربة جديدة في روحك وجسدك، بل إن العربي هو الوحيد في الكون الذي كتب عليه، أو كتب على نفسه أن يكون غريباً حتى داخل أرضه وبيته!! ففي تراثه يقرأ ويسمع ويقنع (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وهو يعوّل على ما بعد الحياة الدنيا من دون أن يعرف كنه ما ينتظره!
وبعد العقيدة صار يسلّي نفسه بأن الدنيا لا شيء، وأن الغربة فيها قدر بانتظار آخرة! لم يسأل نفسه يوماً: لِم وجد في هذه الدنيا؟ ما رسالته في هذه الحياة؟ ما المطلوب منه أن يفعله بانتظار آخرة وعد بها؟
رأى بفطنته! أو رؤي عنه أن مهمته في الدنيا هي العبادة، وجاء الوعاظ من مختلف المذاهب والطوائف، إسلامية وغير إسلامية، ليربطوا حياته بالمعبد والكنيسة والمسجد، وليصبح هذا المرء مرتبطاً بأسياده الذين اختاروه لهم واختارهم بملء انسياقه وانقياده، وتحولت العبادة من عمل دؤوب، وعلم لا يتوقف عند حد، وتفكر لا نهاية له، إلى ممارسات طقوسية تقليدية، لو تهيأ للإنسان أن يقوم بها، فإن سحابة ليله ونهاره ستنقضي وهو يمارس هذه الطقوس، ومن ثم يرى نفسه مقصراً!! لا مشكلة لدى الأسياد في أن تكون فقيراً وكسولاً، المهم أن تكون ساجداً ومسبحاً ليرضى الإله عنك!
بل إن عدداً من المتنورين المفترضين يساوي بين علم الدنيا وعلم الدين، ولا يقبل أن علوم الدين يمكن أن يقوم بها عدد محدود من الأفراد، أما علم الدنيا فهو واجب وضرورة لكل أفراد المجتمع، ولحياة كل فرد من أفراد المجتمع! لذلك كنا نرى أو نسمع في السابق عن عالم دين يعمل في التجارة، ولا يأخذ من الناس شيئاً، ولا يتقاضى مرتباً، وأنا شخصياً درست على يدي واحد منهم في المرحلة الابتدائية، وهو معلم في التمديدات الصحية، عاصرته سنوات، لم يتخلف عن عمل أو ورشة، ولم يتقاض شيئاً عن تعليمه وتحفيظه، بل سعى إلى تعليم عدد من العاطلين عن العمل والشباب مهنة التمديدات الصحية، وهم اليوم من سادة هذه المهنة في المنطقة، والرجل جاوز الثمانين وما يزال يذهب إلى الورشات والعمل فيها، ويرفض أن يكون همه الديني فوق عمله الدنيوي الذي يعيش منه!
هل هذا الرجل الجليل الجليل على خطأ؟! بأي طريقة، وأي وسيلة استطاع هؤلاء اليوم إقناع الناس بأن الدنيا لا قيمة لها وأن الآخرة هي المنطق والغاية؟! بالأمس أرسل لي أحدهم تقسيماً وتسميات لساعات النهار والتسبيحات، وعندما قرأتها اكتشفت أنني وفق هذا التقسيم ولدت ضالاً، وعشت غير مهدي، وأمضي غير مأسوف على رحيلي!! فأنا حسب التقسيمات على ضلال ولم أعرف حياتي وواجباتي، فأرسلت له عبارة: هذا وعظ جهل وكسل، وحظرني، وأظن أنه أخبر غلمانه بأنني لست على جادة الصواب! علماً بأنّ هذا الواعظ أصغر من طلابي، لكن يلبس ثياب المشيخة ويدفع مقابل ترتيب عمامته، وهي تستحق بما أعطته من سطوة!
بقدرة قادر تحول المجتمع إلى مجتمع ينادي بالكهنوت والمؤسسة الدينية، ويلتف حول المناداة باسم الألوهية والدين، وكل من لا يفعل صار دمه حلالاً، ويمكن أن يسفح من دون أدنى مشكلة، وكثيراً ما صرنا نسمع كلمة: الذبح، دمه حلال…!
لو كان وديع الصافي بين أيديهم لأعدموه من حباله الصوتية النادرة!
لو تمكنوا لألغوا معزوفة الصباح فيروز، فهي حرام، ومن يعمل على تقديمها آثم!
ولن أكمل إلى أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم ووردة ونجاة والقائمة تطول، جميعهم من حطب النار وجهنم، وهم من يقرر من يكون من حطب النار، ومن يحظى بجنان الخلد!
بقدرة قادر تمت مأسسة الكهنوت، وفي المأسسة الخطورة الكبرى، لأنها تحقق المصالح الدنيوية التي يستكثرها رجال الدين على الناس، في المأسسة تتحقق التراتبية والعوائد المادية والوجاهة والمناصب، ويصبح هؤلاء أخطر من الخطورة، فهم فوق أي اعتبار، لأنهم يحققون مشيئة الله! يقبضون باسم الله! يتمتعون بكل شيء بتفويض من الله! يطمسون الفطرة بأوامر يرونها إلهية! وعليك أن تنصاع إلى هذه الرؤى..!
قدرنا الرحيل من كل شيء وإلى كل شيء!
ارتحل كثيرون من عباقرتنا، فأسهموا في بناء الحضارة، وكانت تلك البلدان ملاذاً لهم! تحولت الأرض إلى قفر!
تحولنا إلى مستثمرين رديئين سلبيين للحضارة!
ولكن حسبنا أن علاقتنا مع الله وهي الأكثر أهمية هناك من ينظمها لنا، وهناك من يدلنا على الطريق القويم! نيوتن وإنشتاين وأديسون إلى النار لأنهم لم يعرفوا طريق النور، ونحن نعبد ونسبح في الظلام سيعوضنا المولى بالجنان.. أخذوا الدنيا ولنا الآخرة!
وأسيادنا أخذوا الدنيا والآخرة!
وما علينا إلا أن نرحل بذواتنا وأرواحنا إلى المطلق
قدرنا الرحيل والمطلق يعرفنا ويحبنا خارج المؤسسة.
فمن رحلة إلى رحلة..
ومن ألم إلى ألم..
يقضي أحدنا حياته مرتحلاً بين فكر وواقع..
بين ألم وفرح، ولكن فاصلة الفرح دوماً ينغصها الرحيل أو التفكير بالرحيل.
رحلة الظعائن كانت علامة الأمس البعيد!
رحلة القهر والألم علامة الأمس وعلامة اليوم، فهل تكون علامة الغد الذي نظنه مختلفاً؟!
متى يمكن أن يكون رحيلنا إلى ذواتنا حيث اللانهاية وحيث التطابق مع ما وصلنا ومع ما نحن عليه ومع ما نؤمله من الغد قريباً أو بعيداً.
ألم يشبع منا الرحيل؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن