قضايا وآراء

سقوط الدبلوماسية وتراجع الهيمنة الأميركية

| د. قحطان السيوفي

الولايات المتحدة الأميركية اكتسبت الهيمنة العالمية مع بداية النصف الثاني من القرن الـ20 لكنها اليوم، تواجه صعود الصين وقوة روسيا وديناميكية الهند وارتفاع عدد السكان والتحركات الاقتصادية في إفريقيا وعدم قدرتها على السيطرة على الأحداث في الشرق الأوسط وعزم أميركا اللاتينية على التحرر من هيمنتها الفعلية.
المراقبون يرون أن قوة الولايات المتحدة قاربت الوصول إلى نهاياتها، هناك خياران لدى واشنطن، الأول هو التعاون العالمي، والآخر هو التصعيد العسكري كإجابة عن طموحات مُحبطة، والتعاون العالمي هو السبيل لتحقيق السلام، وسيُمكن الإنسانية من مواجهة التحديات العالمية المُستعجلة، بما في ذلك تدمير التنوع البيولوجي، وتسمم المحيطات، وظاهرة الاحتباس الحراري وانعكاساتها وهو يعني الرغبة في التوصل إلى اتفاقات مع دول أخرى، وليس مجرد تقديم مطالب من جانب واحد.
الولايات المتحدة معتادة تقديم المطالب بصفة أوامر، كما كان الحال مع روما القديمة، والإمبراطورية البريطانية من عام 1750 إلى 1950، والتنازل ليس جزءا من قاموس واشنطن السياسي، وكما قال الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش «إما أن تكون معنا وإما ضدنا».
بعد الحرب العالمية الثانية، قادت الولايات المتحدة العالم في مجال العلوم والتكنولوجيا والبنية التحتية، وشكلت 30 في المئة من الاقتصاد العالمي، ونظمت النظام الدولي منظمة الأمم المتحدة، ومؤسسات بريتون وودز، وخطة مارشال.
في أعقاب الحرب الباردة؛ أوجدت حروب أميركا السرية والعلنية الداعمة للإرهاب في أفغانستان والعراق وسورية وليبيا وجنوب السودان وغيرها من البلدان، عاصفة مدمرة عبر الشرق الأوسط الكبير، وانخفض نصيب الاقتصاد العالمي الذي تمثله الولايات المتحدة بما يقرب من النصف أي نحو 16 في المئة حاليا، والآن تتمتع الصين باقتصاد أكبر من حيث القيمة المطلقة مقارنة بالولايات المتحدة.
تعتقد الصين بجرأة أنها قوة آسيوية ذات مسؤوليات خاصة بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب اعتبر التجارة المفتوحة المؤيدة من الولايات المتحدة، تمثل تهديدا خطيرا على هيمنتها المستمرة. ويطالب بإبعاد السلع والشركات الصينية، مدعيا أن التجارة العالمية نفسها تقوض التفوق الأميركي.
الأستاذ الأسبق في جامعة هارفارد والدبلوماسي الأميركي روبرت بلاكويل ومستشار وزارة الخارجية الأسبق أشلي تيليس كتبا: «يجب أن تبقى الصدارة الهدف الرئيس لإستراتيجية الولايات المتحدة الكبرى في القرن الـ21»، وإن «صعود الصين بعد ذلك فرض بالفعل تحديات جيوسياسية وعسكرية واقتصادية وعقدية على قوة الولايات المتحدة، وحلفائها. إن نجاحها المتواصل في المستقبل سيضعف المصالح القومية للولايات المتحدة».
بيتر نافارو مستشار ترامب للتجارة، كتب: «كلما قمنا بشراء المنتجات المصنوعة في الصين، نحن كمستهلكين، سنساعد على تمويل الحشد العسكري الصيني الذي قد يلحق الضرر بنا وببلداننا وبتمثيلها لـ4.4 في المئة من سكان العالم فقط، وبحصة منخفضة من الناتج العالمي، قد تحاول الولايات المتحدة التمسك بوهم الهيمنة العالمية من خلال سباق جديد نحو التسلح والسياسات التجارية الحمائية، وهذا من شأنه أن يوحد العالم ضد الغطرسة الأميركية والتهديد العسكري الأميركي الجديد.
ستعمل الولايات المتحدة على إفلاس نفسها في حالة تنامي طموحاتها الإمبريالية الكلاسيكية المبالغ فيها. كتب فيليب ستيفنز في «الفاينانشال تايمز» في 5 حزيران الماضي عن سقوط الدبلوماسية الأميركية: «استنادا إلى الأدلة المتوافرة يتبين أن وزير خارجية أميركا مايك بومبيو قبطان أرعن للمصالح العالمية لأميركا، فإذا أضفنا إلى ذلك مزاج الرئيس دونالد ترامب المتقلب الذي يطغى عليه الأنا فسنصل إلى نهاية الدبلوماسية الأميركية».
وزير خارجية أميركا السابق ريكس تيلرسون، لم تمنحه خبرته في أعمال النفط، تفهما للأحداث الجيوسياسية، ولم يحصل قط على ثقة ترامب. أحياناً كان قادرا على كبح جماح الأخير، لكن بومبيو يحاكي بشكل متقن نقاط الضعف التي يعانيها ترامب. كلاهما يتخيل أن باستطاعة الولايات المتحدة فعل ما تريد، أينما ترد، ووقتما تريد، وهو نهج قائم على تقديم الإجابة عن السؤال الكامن في جوهر كل الحسابات الدبلوماسية: ماذا بعد؟ والفكرة المهيمنة لديهما، أحادية الجانب تهدف إلى إظهار القوة الأميركية وتنُتج أثرا عكسيا: إضعاف قدرة واشنطن على تعزيز مصالحها. ففي كل مرة ترفض فيها الولايات المتحدة التزاماتها الدولية، بشأن التجارة، أو التغير المناخي، أو إيران، فإنها تدعو الحلفاء إلى التراجع والبحث عن أصدقاء وخصوم جدد، وترامب نادراً ما يفكر فيما هو أبعد من التأثير الفوري للتصريحات والتغريدات التي ينشرها. يريد أن يُحدِث ضجة. أما العواقب المحتملة فيجري تجاهلها. يتفاخر مساعدوه بأن نهجه الارتجالي «التعطيلي» يتصدى لمعضلات تاريخية بمحاولة إعادة كتابة القواعد، وهذا يبدو كافيا في رأيهم.
استغل بومبيو أول خطاب له لتحديد ما وصفه بأنه إستراتيجية تجاه إيران، لكن لم يقدم إستراتيجية بقدر ما قدم قائمة مطولة من المطالب إلى إيران. والمتطلبات تجاوزت الاتفاق النووي بمسافة كبيرة، لكن الدبلوماسي يستطيع رؤية الفجوة بين الأمور المرغوب فيها والأمور المعقولة وهذا لم يحصل. في معظم الأحيان يستطيع ترامب التلويح بالعقوبات، لكنه يخسر دعم المجتمع الدولي، الأوروبيون يلتفون على العقوبات الأميركية أينما أمكنهم ذلك. وتتجاهل الصين وروسيا ذلك. من جانبها ستواصل إسرائيل الضغط من أجل شن حرب على إيران. يوضح الاندفاع نفسه، المحكوم بالأنا، عقد القمة بين ترمب والرئيس كيم.
مستشار الأمن القومي المتشدد جون بولتون، ردم الهوة عندما قال إن الولايات المتحدة لن تقبل من كوريا الديمقراطية أقل من استسلام ذليل في برنامجها النووي! أحد الأمور المؤكدة هي أن بيونغ يانغ ليست على وشك تسليم ترسانتها من الأسلحة النووية في وقت قريب.
يتم في بعض الأحيان انتقاد باراك أوباما، سلف ترامب، لتراجعه عن الاضطلاع بالدور القيادي الأميركي. في جزء منه، كان هذا اقتناعا بحقيقة التحولات في السلطة العالمية. إذا نقبنا في التهديدات الصاخبة والكلام الأجوف فإننا نجد أن ترامب حوَّل قلة الثقة بالنفس إلى تراجع من خلال إضاعة القوة الناعمة لأميركا. ومن خلال التعامل بنظرة أحادية ذات طابع عدائي، أقنع الحلفاء والخصوم بأن اللحظة الأميركية على وشك الانتهاء.
الواضح أن إدارة ترامب أدت لسقوط القوة الناعمة لأميركا، وتراجع الهيمنة الأميركية، والشيء البديل سيكون على الأرجح شيئاً أسوأ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن