ثقافة وفن

الحرب الثقافية استهداف لوعي السوريين

| هناء أبو أسعد

اللغة والعادات والتقاليد تحدد هوية المجتمع، وتعطيه تلك الصبغة الخاصة به، لذلك يجب علينا الحفاظ على ما هو مفيد من تلك العادات وتطويرها بما يتناسب مع الحداثة لأن التطوّر لا يعني أبداً التخلي عن التراث والعادات والمعتقدات، والحداثة لا تعني التخلي عن ثقافتنا وتراثنا والنفور من عروبتنا والاستهزاء بعقيدتنا وديننا، التطور والحداثة ليسا في قطع حبل السرّة بين الحاضر والماضي، بل بالمحافظة على ما نملك وتحديثه ليتناسب مع العصر الذي نعيش فيه وأخذ ما يناسبنا من ثقافة الآخرين وتجاربهم لنسير نحو التطور والتقدم.
وما من شك بأن الخطر الأقوى على الأمة هو تدمير تاريخها الفكري والثقافي والفلسفي والأخلاقي، فما نشهده اليوم هو أن أنظمة ديمقراطية تنادي بالحرية وحقوق الإنسان، وبالمقابل تتولى تهديد البشرية بالحرب الثقافية إن لم تستطع بالحروب العسكرية، تسيطر على عقول البشر بحرب ناعمة ساكنة، قد لا يشعر بها الكثيرون فهي تعمل كالدبيب في صمت من دون أن ننتبه لها، إنها الحرب الثقافية التي قد تكون في أي مكان نحضر فيه «مدارس– مشاف– دوائر حكومية- دور أيتام– جامعات– معاهد– وحتى والأسواق». تستخدم الثقافة لتغيير أذهان البشر، هي لا تحتاج إلى عتاد حربي من مدافع وطائرات وقنابل ورشاشات، لكنها أشدّ فتكاَ ودماراَ، لأنها تستهدف المقدسات والعادات والتقاليد واللغة والتراث، جنودها ليسوا ضباطاً عسكريين وقياديين يحملون رتباً عسكرية ونياشين، وإنما كتّاب ومثقفون وأدباء وسياسيون سابقون وعلماء دين وفنانون، ممن يمتلكون شعبية عالية بين الناس. ترسانتها ليست مدافع وصواريخ ولا أسلحة بيولوجية وكيماوية، بل كتب وصحف ومجلات وإذاعات وقنوات فضائية ودور نشر وترجمة وندوات ومحاضرات ومؤتمرات وجامعات ومعاهد ومدارس، ومهرجانات وجوائز فنية وثقافية للترويج لمصطلحات رنانة كـ «الحرية الفكرية – حرية التعبير- حرية الرأي والإصلاح الاقتصادي… وغيرها». وعدونا يكرس موارد واسعة من أجل برنامجه السري للدعاية الثقافية»، يرتكز على الحرية الثقافية وحرية الرأي والتعبير «كما يدعي أيضا». فإنه يحاول دائماً اختراق ثقافة البلدان التي تود السيطرة عليها من خلال إنشاء جمعيات ثقافية وتمويلها بطرق مباشرة وغير مباشرة وتجنيد النخب الثقافية والعلمية للسيطرة على عقولهم وتوجيهها. والهدف الأكبر من وراء ذلك طمس هويتنا وقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا وتراثنا ومعتقداتنا، وتشويه صورة ديننا وانتصاراتنا وأبطالنا وأمجادنا وأجدادنا وتدمير آثارنا وتاريخنا بأكمله وتشويه صورته.

تمويلات ضخمة لتغيير الحقائق
للحرب الثقافية مجالات عديدة ومتنوعة «تعلمية وتربوية وإعلامية وفنية… وغيرها». وخير شاهد عليها ما رأيناه خلال سنوات الحرب من غزو فكري وما نراه مستمراً حتى اليوم، هو الإعلام الموجه الإخباري والفني، فالقنوات الفضائية الإخبارية التي كان لها العامل الكبير في الحرب والقتل والدمار، المدفوعة الثمن التي تنشر كل ما هدفه التدمير والتخريب وتمزيق البلد والتفريق بين أفراد الشعب الواحد، وخاصة الخطاب الطائفي وهو أخطر أنواع الأسلحة.
أما القنوات الفنية التي تعتمد على التعري وإثارة الغرائز والعلاقات الأسرية التي لا تمت إلى مجتمعنا بأي صلة «المسلسلات المدبلجة». فالأعداء يتدخلون في مراحل الإعداد لها بالحذف والتغيير والإضافة وفق إستراتيجية محددة في أذهانهم قائمة على زرع أفكار الكراهية والحقد بين مكونات الشعب السوري، وبين الشعب وقيادته عن طريق تزوير الحقائق واللعب في الإخراج والمكياج وغير ذلك، وذلك بالاستعانة بفنيين عاملين ومخرجين أيضاً مأجورين، حتى يكاد المُشاهد يصدق أن الذي يراه حقيقة وليس صناعة سينمائية وخدعة.
تلك القنوات المأجورة التي يصلها ملايين من الدولارات على مدار الساعة لتبث أفكاراً سامة يريدها العدو الذي يمولها ويمول كل طرف من أطراف الغزو الثقافي «وهذا ما لاحظناه في بداية الحرب على سورية، في نوعية الإخراج والإرسال ومستوى البث الفضائي» كانت تقدم المعلومات والصور إلى المتلقي بعد إجراء التعديلات في النص أو في الصورة بشكل مدروس ومنهجي ما يؤدي إلى تغيير في المفاهيم، وهذا التغيير يقدم واقعا جديداً مزورا لا علاقة له بالواقع الحقيقي، وكل ذلك بهدف خدمة العدو كـ«قنوات الجزيرة والعربية وغيرها….».
أما في مجال التربية والتعليم في المدارس والجامعات، فالحرب الثقافية هنا هي الأخطر لأنها تتعامل مع أطفال وناشئة وشباب، تأتيهم بشعارات خداعة زائفة براقة ينخدع بها الكثيرون، شعارات تنادي بالتطور والحرية الفكرية والديمقراطية والعدالة والإصلاح الاقتصادي وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل، لكنها بالأساس كل تلك الشعارات غطاء لتدمير ممنهج، وهو ما يمكن أن نسميه وضع السم في العسل.
ولنا أن نتصور ما جرى في بلدنا منذ ثماني سنوات من تدمير لكل ما هو حضاري وزرع أفكار هدامة ومصطلحات طائفية مدمرة، وفرض نوعية اللباس ولونه وطريقة العبادة والتدخل في كل ما هو شخصي في المناطق التي سيطرت عليها العصابات التكفيرية، وكل ذلك يؤدي إلى التخلف والانغلاق الثقافي بعكس الشعارات الرنانة التي بدأت فيها حربهم القذرة. فالسيطرة العالمية المعاصرة على المجتمعات تعدت السيطرة العسكرية أو الاقتصادية فقط بل هي نسيج من السيطرة الثقافية، إذ أصبحت نمطية الحياة لدى بعض الشعوب صورة متكررة لشعوب أخرى في فعلها الثقافي على الرغم من أنها لم تخضع لاحتلالها العسكري أو لهيمنتها الاقتصادية.
فمن هؤلاء الذين أتوا إلينا من جميع أصقاع الكون ليروا أن ثقافتنا شر خطير، ويتولوا معاقبتها، ومعاقبتنا؟ ومن هؤلاء الذين تحوَّلوا إلى قوَّة عظمى، فصاروا يمثِّلون الحق والعدالة؟

الثقافة إرث المستقبل
واجب علينا الحفاظ عليها
صحيح أن الإنسان لا يحيا بالثقافة فقط، ولكن لا يمكن إغفال دورها في كونِها إرث المستقبل وصورته الناصعة التي نصنعها، ولكن كيف السبيل إلى صناعة تلك الصورة والحفاظ عليها؟
من تجارب الشعوب السابقة التي رسمت مستقبلها وعملت على تحويل طموحاتها إلى حقائق وواقع، نستنتج أنه لابد من اتباع المنهج العلمي في تحديد مشكلاتنا القائمة وربما المحتملة والعمل على التنمية المستدامة والدعم الثقافي لجميع المؤسسات لمواجهة تحديات العصر، وصون إرثنا الثقافي الذي تمتد جذوره في الإرث الحضاري للبشرية بأكملها.
فلابد من الحفاظ على اللغة العربية والحديث بها وعدم تحريف أحرفها كما يحصل الآن في العالم الافتراضي بدل الـ«القاف» يكتب «ء» وبدل الـ«ذ» يكتب «ز»، والقراءة المستمرة لكتب الثقافة والكتب التي تهتم باللغة العربية الفصحى والتشجيع على ذلك من الوزارات بعمل مسابقات ثقافية، وخاصة وزارة التربية، لتنشئة جيل واع ومثقف يستطيع الصمود أمام الهجوم الثقافي الغربي.. وحمايته أيضاً من الثقافة الاستهلاكية ومن الجهل. من خلال التربية الوطنية والقيم الإنسانية السامية. هذا الجيل هو الذي سيبني المستقبل ويحافظ على الحضارة والثقافة.

ستبقى سورية مهد الحضارات
الحرب التي استهدفت سورية منذ البداية كانت ثقافية، لأنها استهدفت منظومة الوعي عند السوريين، ونحن في هذه المرحلة بحاجة إلى دعم الثقافة ودعم من يبني العقول ويهتم بثقافة الأجيال، لتبقى سورية مهد الحضارات والعلم والحضارة والانفتاح، فما الثقافة تلك التي تدعو إلى تدمير أوغاريت، وتدمر، ومسرح بصرى الأثري، وقلعة حلب وقصر البنات في الرقة وقلعة صلاح الدين والحصن…. وغيرها. وأي ثقافة تلك تدعو إلى قتل أبي العلاء المعري وأبي فراس الحمداني وبدوي الجبل وعمر أبو ريشة وفارس الخوري وهاني الراهب وفاتح المدرس وسعد اللـه ونوس ونزار قباني وألفت الادلبي وكوليت خوري وغادة السمان، وسليمان الأحمد ومحمد الماغوط وممدوح عدوان غيرهم…؟ وما تلك الثقافة التي تدعو إلى الطائفية ونبذ الآخر لا بل قتله؟
أين أنتم، يا من تنشرون السم في خطابكم، أين أنتم من سلطان باشا الأطرش«السويداء»، والشيخ صالح العلي «الساحل السوري»، وإبراهيم هنانو «حلب»، وحسن الخراط «دمشق»، والشيخ إسماعيل باشا الرفاعي «حوران» والشيخ بدر الدين الحسيني، ويوسف العظمة، وفارس الخوري….. هؤلاء هم سورية وثقافتها ونحن بحاجة إلى روح هؤلاء، بحاجة إلى ترسيخ ثقافة الأدب والأخلاق والوطنية والانتماء والمقاومة، وثقافة الانتصار على الأعداء، لا ثقافة التفرقة والدمار، والخنوع والاستسلام. ففي حرب تشرين التحريرية شهدنا شعر المقاومة ورواية الحرب وقصص البطولات التي سطّرها الجيشان المصري والسوري، وأَقيمت مئات المعارض المحلية والدولية لكشف طبيعة العدوان على شعبنا وشعوب المنطقة التي رسَّخت أساسات وقواعد الثقافة الوطنية في سورية ومصر.
الثقافة مثلها مثل علم الفلسفة والمنطق فهي تدخل في شيء وهي صفة تستخدم في جميع الميادين، في الحرب هناك نوع من الثقافة – ثقافة التدمير والانتماء إلى الأعداء، وآخر ثقافة المقاومة والانتصار على الأعداء والانتماء إلى الوطن، ونحن اخترنا المقاومة والانتصار لتبقى سورية مهد الحضارات والثقافات وبوابة إلى التاريخ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن