قضايا وآراء

مخطط التهويد يشعل انتفاضة ثالثة

| د. يوسف جاد الحق

نتحدث عن غزة أولاً، لأنها أسبق زمنياً من ناحية، ولأنها من ناحية ثانية، كانت مقدمة لما يجري اليوم في القدس والضفة عموماً، والصلة في الدوافع والأسباب والغايات ليست مقطوعة بل هي وطيدة الصلة بلا ريب.
العدوان الصارخ الذي يقع على غزة في كل يوم من أهم أهدافه تفعيل واحد من البنود المهمة المؤدية، في حسابهم، إلى تهويد «دولة» الكيان.
هذا العدوان، في حد ذاته، يضاف إليه الحصار الرهيب المفجع على مدى يزيد على ألف يوم حتى الآن، في البر والبحر والأرض وتحت الأرض، يهدف إلى التدمير الشامل الكامل للبنية التحتية والفوقية، وسائر أسباب الحياة، بحيث تستحيل معه مواصلة الحياة الإنسانية في القطاع، لفقدان مقوماتها، ومن ثم دفع أهله إلى الرحيل أسوة بما حدث عام 1948، إذ سيجد الناس أنفسهم أمام أحد مصيرين، إما الموت مرضاً، أو عوزاً، أو قتلاً، وإما الرحيل، وإذا ما تم ذلك أصبحت مرحلة التطبيق الفعلي لنظرية «التهويد» قابلة للإنجاز بامتياز.
بيد أن صمود أهل غزة، مقاومة وشعباً، خيب آمال العدو في تحقيق ذلك الهدف، فالفلسطينيون، كما بدا واضحاً للدنيا كلها، متشبثون بأرضهم، لا يرضون منها بديلاً، أياً كانت الضغوط والمؤامرات التي تنصب عليهم بلا هوادة، ليس من العدو وحده، بل من بعض أبناء جلدتهم، ولعل هذا أشد وأقسى «فظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند».
نشهد اليوم ما يجري في القدس والخليل وسائر أنحاء الضفة، فقد هبت ثورة عارمة في وجه عملية التهويد الجارية تحت عنوان «التراث اليهودي» ومنحهم القدس عاصمة «أبدية»، ربما تكون مقدمة لانتفاضة ثالثة، قد تكون حاسمة، فالظروف تغيرت على أكثر من صعيد عما كانت عليه في الانتفاضتين الأولى والثانية، وهي لمصلحة الفلسطينيين والعرب، إذا ما استثنينا الضالعين والصامتين بينهم، فالتجارب الماضية في السنوات الأخيرة أثبتت أن المقاومة هي السبيل الوحيد لاسترجاع الحقوق، وأنها بما حققت من انتصارات حتى الآن، أصبحت تؤرق العدو إلى حد تخوفه على وجوده ذاته.
أهل الضفة، كأهل غزة، فلسطينيون صامدون لا يبرحون الأرض مهما حدث، وهاهي صورة وحدة الشعب جلية فالتظاهرات العارمة، والغضب «الساطع» في كلتا المنطقتين على أشدها، تهتف بصوت واحد وتنادي بهدف واحد، رغم حكومة بنيامين نتنياهو وأعوان دايتون، هنا أيضاً خابت آمال العدو حيث لم يجد أمامه سوى شعب أشد صلابة من الصخر، وأكثر تحملاً من «الحديد المنصهر»، وإن بدت الأمور على غير هذا النحو في وقت من الأوقات ما شجعه على الشروع في تنفيذ مخططه الشرير، والشعب الفلسطيني يعلنها عالياً جهاراً ونهاراً، أنه لا يعرف سوى طريقين اثنين: إما الشهادة دون الأرض، وإما الصمود فوقها متحملاً تكاليف البقاء على ترابها وتحت سمائها.
وحبذا لو استطعنا، عن طريق الإعلام بأدواته المختلفة، تعريف الناس في مشرق الأرض ومغربها أن المقاومة لا تدافع عن غزة وحدها، ولا عن القدس وما حولها وحدها، وإنما تدافع عن حقوق العرب والمسلمين وأحرار العالم كله، وهي قد واجهت، على مدى السنين، وما برحت تواجه أعداء البشرية من بني صهيون، دفاعاً، وإن بدا ذلك غير مباشر، عن سائر البشر إزاء عدو يكاد يكون كلي القدرة باعتبار ما هو كائن بالفعل من حلف إستراتيجي فاعل بين إسرائيل وأميركا وجزء من الغرب ضالع ومشارك معها.
أليست هذه معجزة بكل المقاييس أن يتمكن شعب صغير مسلوب الإمكانات القتالية، أعزل بغير سلاح ذي قيمة حقيقية، محروم من الغذاء والدواء وسائر أسباب الحياة، محصور في رقعة ضيقة تكاد تخنق الأنفاس، فيحول، رغم ذلك كله، دون تحقيق هدف إسرائيل الشرير الذي لو قيض له النجاح لأصابت عواقبه سائر البشر بأسوأ ما مر بهم في تاريخهم كله؟
هذه حقائق دامغة حري بنا تعريف العالم بها، تحذيراً مما يحتمل أن يواجهه من أخطار، لابد أن تناله هو أيضاً، إن لم يكن عاجلاً فآجلاً إذا ما بقي سائراً فيما هو فيه من: إما تجاهل ما يجري على الفلسطينيين والنظر إليه دونما اكتراث، وإما المشاركة في هذا الذي يجري عليهم، فإسرائيل تقودها مجموعة من المجرمين، الإرهابيين الحقيقيين المعبئين تلمودياً وتوراتياً، بترهات وأساطير ما أنزل اللـه بها من سلطان، هم مجموعة من الأشرار المغامرين المقامرين بمصير البشر، لا تردعهم القوانين، أرضية كانت أو سماوية، يحق لهم ما لا يحق لغيرهم، والأمم جميعها لا تعني لهم شيئاً إلا بقدر ما تحققه لهم هذه الجهة أو تلك، من منافع، أو تقدمه لهم من خدمات مجانية أيضاً، ولو على حساب أرواحها وأبنائها، كما هو حالهم مع أميركا وبريطانيا وغيرهما، الذين يقتل جنودهم في العراق وأفغانستان وغيرهما من أجل اليهود بدفع من «آيباك»، وغيرها من المؤسسات والمحافل اليهودية.
علينا أن نقول للمخدوعين، والنفعيين، والمرتزقة، ممن عميت بصائرهم: إن إسرائيل دخلت في مرحلة العد التنازلي لوجودها نفسه، «بتهويد» أو من دون «تهويد»، وهي لا شك زائلة عن هذه الأرض، وهناك يهود من ذوي الرؤية الثاقبة يقولون هذا في كتاباتهم ومنتدياتهم، ويعزون ما يرون إلى أسباب أهمها:
سلوك الكيان مع محيطه منذ نشوئه حين عمد إلى اختيار القوة الغاشمة والعدوان البربري المتواصل على الفلسطينيين والعرب دونما مبرر، حتى بعد أن سلبوهم أرضهم وأخرجوهم من ديارهم، ما ترك آثاراً لا يمحوها الزمان، ولاسيما أن المسألة الديموغرافية ستكون حاسمة في المستقبل، فالفلسطينيون على وشك أن يصبحوا مماثلين في العدد لليهود، على حين تجاوز العرب الثلاثمائة مليون، والمسلمون غدوا ملياراً ونصف المليار، وهؤلاء وأولئك لن يظلوا أبد الدهر محكومين من زعامات تمشي في ركاب أميركا، أو تسايرها على الأقل، لأن أميركا نفسها تتراجع عما طمحت إليه ذات يوم في أن تكون الدولة المهيمنة الوحيدة على العالم بأسره.
تغير موازين القوى، على الصعيد المحلي بتصاعد المقاومة وإظهار حقيقة القوة الإسرائيلية، وجيشها الذي «يقهر» بالفعل، أمام قوة الإرادة والإيمان لدى الطرف الآخر، أما على الصعيد الدولي فقد انكشفت أميركا نفسها، ولم تعد القوة المهيمنة على العالم بوصفها القطب الأوحد، كما هيئ لها في وقت من الأوقات، كما أنها لم تعد الدولة ذات القوة المالية الجبارة كما صورت نفسها فيما مضى، وهي الآن دولة مدينة، ناهيك عن إفلاسها الأخلاقي الذي تبدت نماذجه في سائر دوائرها ومؤسساتها، من الكونغرس إلى الإدارة، إلى غوانتانامو إلى أبو غريب وغيرها.
انتشر خيار المقاومة في الوطن العربي وأماكن أخرى من العالم، ولاسيما بعد تجارب أثبتت أنها الوسيلة الوحيدة لاستعادة الحقوق، وشواهد ذلك ما حدث في لبنان وغزة والعراق وأفغانستان، أمور لم تعجز أميركا وحدها بل أيضاً معها حلف الناتو.
ظهور قوى طالعة، سوف تتجلى آثار صعودها فيما هو آت، ليصبح الوضع الدولي متعدد الأقطاب، وبحلول دول أخرى تنتزع مكان الصدارة من أميركا كالصين وروسيا وغيرهما.
وما أصاب أميركا حتى الآن كان بفعل اليهودية العالمية ومن صنعها، سواء قصدت ذلك أو أوصلها إليه الجهل والغباء والنفوس المنطوية على الشر والحقد والعداء لكل ما هو غير يهودي. هكذا كانوا على مدى التاريخ داءً وبيلاً أصاب البشرية بأضرار فادحة، بيد أننا نحن العرب الذين سبق لهم أن قدموا للعالم أنموذجاً حضارياً راقياً قلما عرف العالم له مثيلاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن