في بعض العناوين الوطنية!
| د. بسام أبو عبد الله
كنت قد تناولت في مقالين سابقين قضيتين وطنيتين مهمتين هما: «التطرف العلماني» و«ما بين العلمانية والتدين»، وهما قضيتان إشكاليتان في الحياة السياسية السورية منذ عقود بعيدة، ولكن الإشكالية ظلت طوال هذه العقود قائمة على الشك بين طرفي هذه المعادلة وعلى تحاشي أي نوع من الحوار، والتلاقي، وإيجاد القواسم المشتركة الوطنية، وأؤكد على كلمة «الوطنية» لأن الغاية الأساسية لأي طرف، أو جهة ليست من ينتصر أيديولوجياً، إنما ماذا نستطيع أن نحقق للمواطنين السوريين تقدماً اقتصادياً، واجتماعياً، وعلمياً، وثقافياً، وتكنولوجياً، وخدماتياً، ذلك أن تجارب الشعوب الأخرى سواء أكانت ليبرالية التوجه، أم اشتراكية، أو غيرها، أظهرت أن التنافس الحزبي، أو البرامجي ليس من أجل هدف أيديولوجي بحت، أو من أجل تسجيل نقاط في سلة الأطراف الأخرى المختلفة معك سياسياً، إنما من أجل تنفيذ برامج اقتصادية، واجتماعية تؤمن الازدهار لبلدانهم، والقدرة على المنافسة في عالم لا يرحم الشعوب، والأمم الميتة.
هذا كله يوصلنا إلى نقطة مركزية، وأساسية أيهما أفضل، وأصلح وطنياً استمرار الجدل الأيديولوجي العقيم أم تعريف دقيق للمصطلح، والشرح للناس، أي للمواطنين ما المقصود بالعلمانية! إلى ماذا تهدف! هل العلمانية مرتبطة بالإلحاد؟ ما السلوك العلماني! ما أخلاقيات العلماني… الخ، والكثير من الأسئلة التي يمكن أن تشتق من هذا المفهوم، أو المصطلح.
ما أريد الوصول إليه أنني لا أرى فرقاً كبيراً بين العلماني «القدوة» والمتدين «القدوة» في المجتمع، إذ إن القواسم المشتركة بين الطرفين هي قواسم أخلاقية، والأخلاق قيم إنسانية مشتركة بين الشعوب، وعندما يكون المسؤول يتمتع بقيم أخلاقية أي التواضع والنزاهة وخدمة المواطنين، والابتعاد عن التعالي، والإخلاص للقضايا الوطنية، والابتعاد عن التطرف، والموضوعية في الطرح، والتفاني في المسؤولية، والصدق… الخ، وغيره الكثير، لا أعتقد أن مواطناً سورياً سيميز ساعتئذٍ بين علماني ومتدين، لأن ما يهمه بشكل عام ليس الجدل الأيديولوجي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو عبر الكتب، والمقالات، وإنما السلوك الأخلاقي لهذا المسؤول أو ذاك، وقدرة المسؤول على خدمة الناس ومدى نزاهته، وأخلاقياته العامة، وسمعته التي يتركها بين أبناء بلده وشعبه.
وللأسف فإن بعض الفيسبوكيين ومنهم أصدقاء أحترمهم، مازالوا «مكانك راوح» في هذه القضية، إذ كتب أحدهم على صفحته أن مراحل العضوية في حزب البعث العربي الاشتراكي هي: نصير،عضو عامل، خطيب، إمام مسجد! وإذا طبقت هذه المعادلة على العلمانيين من باب التندر فسيصبح الأمر حسب نظرية صديقنا العلماني: علماني، ملحد، راقص، عامل في الكازينو! فهل مثل هذا التندر يفيدنا بشيء، أو يحقق لنا تقدماً، وتطوراً، أم يبقينا في خانة النقاش غير المنتج، ويأخذنا إلى حالة جدل عقيم لا تنتج شيئاً مفيداً للمجتمع أبداً.
إن مسألة «القدوة» الوطنية هي العنوان الذي يجب أن نذهب إليه لنؤسس للمرحلة القادمة، فالمتدين الذي يستغل الدين لتحقيق أهداف خاصة أو سياسية، وممارسته لا تتفق مع جوهر الدين أي «البعد الأخلاقي»، لا قيمة له، وسينكشف عاجلاً أم آجلاً أمام الناس، والأمثلة لا تعد ولا تحصى خلال فترة الحرب على سورية ممن تاجروا بالدين، وبمشاعر البسطاء، وأخذوهم إلى حيث الدمار والهلاك، بعيداً عن قول الرسول (ص): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فهؤلاء ليسوا «قدوة» لأحد لأن أقوالهم لا تتطابق مع سلوكهم، وأخلاقياتهم، وهذا أمر أساسي ومهم، وأكثر من ضروري، لذلك سقط أغلبيتهم على الصعيد الوطني مهما كان طول لحاهم، أو عدد صلواتهم، فالأساس الانطلاق من الآية الكريمة «كبر مُقتاً عند اللـه أن تقولوا ما لا تفعلون».
وإذا انتقلنا إلى طرف أصدقائنا العلمانيين، أو من يدعون العلمانية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: هل العلمانية تعني السرقة، والفساد؟ وهل العلمانية تعني بيع الوطن مقابل الدنانير والدولارات؟ وهل العلمانية تعني قلة الأخلاق والتكبر والجلوس في برج عاجي بعيداً عن المجتمع والناس؟ وهل العلمانية تعني مثلاً الفجور الأخلاقي، وقلة الأدب، والسلوك المدان اجتماعياً؟ وهكذا أستطيع أن أطرح كل هذه الأسئلة وغيرها دفعة واحدة.
إن أكثر من كتب ضد الدين، ودعا للعلمانية الإلحادية من اليساريين والمفكرين، سقطوا خلال هذه الحرب على سورية، وتبين أنهم يمكن أن يتحولوا إلى مذهبيين بالدولار والدينار.
ما أود قوله هنا إن المهم لي كعلماني الالتزام بالسلوك الأخلاقي العام الذي مصدره جوهر الدين والتدين الحقيقي، كما ألتزم بحرية المعتقد، وبحق الاختلاف واللباس، دون أن ألزم أحداً بما أؤمن، وأعتقد أن الأمر كذلك للمتدين الذي عليه إظهار أخلاقياته وسلوكه، وأن يكون قدوة حسنة، بما في ذلك احترام الآخر المختلف عنه، والقدرة على الحوار، والانفتاح على هذا الآخر في الوطن.
إن تركيزي على هذه المسائل المهمة والحساسة، ليس من باب الانحياز لطرف ضد آخر، فأنا علماني، ولكني مؤمن، وإيماني يتمثل بقيم أخلاقية، وسلوكية أقدم من خلالها نفسي للمجتمع، وهكذا يجب أن يفعل كل متدين، وكل علماني ليكون قدوة في مجتمعه، وبلده وليضرب به المثل، ولدينا من نماذج القدوة الكثير الكثير خلال هذه السنوات المريرة من الحرب علينا، فهؤلاء من يجب أن يكونوا قادة الرأي، والمجتمع في المرحلة القادمة، وليس أولئك الذين ينظرون علينا من باب الترف الفكري، أو الفيسبوكي، أما إذا كان ثمة مخاوف، وهواجس فهذه تُحل بالحوار الجاد، والعميق، فالوطن ومستقبل أبنائه لن يبنى إلا من خلال القدوة، والقدوة فقط، سواء أكان متدنياً أم علمانياً.
إن طرح هذه المسائل الوطنية بهذا الوضوح، والشفافية هو أمر أكثر من ضروري، فلم يعد لدينا ترف الاختباء خلف إصبعنا، وإنما تتطلب الأمور المزيد من المسؤولية، والحكمة في التعاطي مع القضايا الوطنية، الأمر الذي يعني أننا بحاجة للمزيد من «الوطنيين الواعين» لحجم التحديات القادمة، التي تحتاج لتكاتف الجميع، وليس اختراع معارك وصراعات غوغائية لا تفيد إلا خصومنا، وأعداءنا الذين ينتظروننا عند كل زاوية، ومفترق طرق، ومن يعتقد غير ذلك فهو واهم، واهم.