ثقافة وفن

كان على قيد الحياة

| إسماعيل مروة

كان نحيفاً يبحث عن لقمة يسكت بها جوعه الذي طال أمده.. إن حدّثته بأي حديث يبادرك بكلمة سيدي ويرتجف أمامك، يتلعثم، ويتطوع في تقديم فروض الطاعة..!! قضى حياته في منطقة مجاورة للصحراء كلما حاول أن يمتطي حمار جاره يناله عقاب شديد! ودهشته غير محدودة كانت عندما رأى دراجة هوائية أمامه، وتملكه العجب من كيفية دوران عجلتيها وأسياخها، وتوازنها على دولابين رفيعين.. يرفع طرف ثوبه ويركض خلف جاره الذي يمتطي الحمار يحسده على سعادته، ويحسد أكثر ولده الذي يجلس في حضنه وهو يلتهم لفافة من الزيت والزعتر، وهو يتلمظ للمنظر ويسيل لعابه ليتجمع حول شفتيه، والذي سبب مع الأيام تهدلاً في شفتيه وتضخماً، وصار اللون الأبيض ملازماً لأطراف شفتيه مدى الحياة، في حديثه، في نومه، في عمله، حتى في محاولته أن يتحدث في الغزل..!
كان نحيفاً يتشهى
كان جائعاً يتلمظ
كان حافياً يركض خلف حمار جاره
كان جاهلاً يعجب من الدراجة الهوائية
كان وكان وكان..
وحين قدم إلى المدينة كان طرف قميصه يخرج من تحت بنطاله، وكان يرتدي بنطاله من دون حزام لأنه ما عرف لون الحزام وشكله ونوعه، أمضى وقتاً طويلاً في المدينة وهو يلبس (الشاروخ) أبو إصبع ليس تمسكاً بتراثه، بل لأنه لم يكن يعرف سواه، وهو قادر على تغيير جلده كالحرباء، يتنازل بسرعة عن كل شيء من أجل لا شيء يظنه شيئاً!
ترك جلابيته التي جاء بها في البيت
اشترى بنطالاً أزرق وقميصاً من الكارويات.. لم يبدله أبداً، وبقي وقتاً حتى اقتنع أن البنطال يحتاج حذاء، ولا يليق به أن يبقى مع الشاروخ.. اشترى حذاء واختاره أن يكون أكبر من القياس ليعيش أكثر، وهو يظن أنه، وقد جاوز الأربعين، يمكن لرجله أن تكبر أكثر، ولا يريد أن يضطر لشراء حذاء آخر في وقت قريب!!
بعد مدة من التلعثم صار هذا يتحدث بوقاحة
بل صار من الذين يحاولون كسب مكانة، ويرى نفسه جديراً بها.!
وفي كل يوم يتذكر سندويشة الزيت والزعتر التي كان يتلمظ عليها!
حلف يميناً بعد أن ارتدى الحذاء والبنطال ألا يدخل الزعتر إلى بيته.. لم يذقه بعدها..
صار يذهب إلى سوق اللحم، يختار كومة منها يشتريها بالجملة، ولو اقترب الفساد منها.. يدركها مباشرة في البيت، ويقنع أسرته أن هذا الطعم نكهة مهمة خاصة بعد غسلها بالخلّ.. والحقيقة هم لا يحتاجون إلى إقناع لأنهم لا يعرفون غير ما يرون!
ومن سوق السمك يختار الكومة الأخرى، وحتى لا تفسد يلتهمها دفعة واحدة مع أسرته، وله النصيب الأكبر..
زيت وزعتر.. لحم وسمك
حمار.. دراجة هوائية
أعقاب السجائر.. لفافة رخيصة
جوع وفقر.. فاكهة في الكيس
حافي القدمين.. حذاء مستورد
شاروخ.. جلد طبيعي
نحافة وحرمان.. تمدد وبطن
ولعاب الشفتين صار أكثر.. وحقد العينين صار أكثر وضوحاً
غيّر جلابيته مرات.. لبس البنطال والطقم!
وحين اقتضت الحاجة لبس الشروال!
وحين أراد اقتناص أمر ما لبس الكوفية والعقال!
بل مال بلسانه، فإن كان مع أهل القرى ادعى أنه فلاح.. وإن كان مع أهل المدن اخترع قصة عن عائلته التي انسربت من المدينة تحت ضغوط! وإن كان مع أهل البدو اخترع قصة وقبيلة ينتمي إليها لتجمعه مع من يتحدث إليهم، لعله يكسب حبهم وودهم! فهو من كل مكان وفي كل مكان، ويصلح لكل مكان..!
ضاع أخونا في الزحام
لم أعد ألتقيه..
رأيته آخر مرة عندما اشترى سيارة فارهة، اختارها أن تكون فوق طاقته..
زار بها مكان ولادته
حرص أن يلتقي جاره صاحب الحمار الذي استكثر عليه أن يركب الحمار
أجلسه إلى جواره مرة واحدة ليتحدث له عن مواصفات السيارة
نظر باحتقار للدراجة الهوائية، ومنفاخها المعلق على البدنية فيها
زيارة واحدة وعاد بعدها إلى المدينة، ولم يعد يلتفت إلى مكانه وأمنياته القديمة..
رأيته يومها
كان يقود السيارة وعيناه الزرقاوان تبرقان، وحزام البطن يزنّره
لم يترك أحداً من دون أن يلقي عليه السلام
قال لي من أثق به:
تغيّر صديقنا..
زاد وزنه مرات ومرات
لم يعد من أصحاب وزن الريشة، بل صار من أصحاب الوزن فوق الثقيل بكثير
لم يعد الحزام يتمكن من جسده الضخم، فاستعان بقطعة أخرى ليطوق جسده
وبعد مدة ألغى فكرة حزام الأمان، فهو لا يمكن أن يُربط بحلاله، ولا علاقة للشرطي به فهو في ملكه وحلاله..
سألت صديقي: أما من طريقة ليعود إلى طبيعة جسده
ضحك وقال:
حين يدخل صديقنا إلى العمل، فإنه يوزع علبة كاملة من الشوكولا على الموجودين
يتبقى معه عدة قطع.. يلتهمها
وحين يبدأ بالجوع يزورهم جميعاً، وكل من يضع قطعته أمامه يتناولها ليلتهمها..
يلتهم ما خص به نفسه، ويلتهم ما قدمه للآخرين.. يعني كل ما في العلبة!
وقال لي ما استغربته:
حين تحضر الصلاة يتقدم ليصلي بالناس على كرسي، ويقرأ الآيات بصوت لا يبين، وبأخطاء غير محدودة..!
عرفت ساعتها أن صديقنا في كل مكان انزرع، وعرفت السر في اختفاء الأشياء عندما تصل إلى أيدينا ممن ذهل بالدراجة الهوائية ذات يوم! وممن كان الناس لا يحترمونه ولا يقتدون به!!
حادث سير مروع في المكان.. تعددت ضحاياه.. وحين انتهت الإسعافات، وحده كان على قيد الحياة مع أنه لم يكن يضع حزام أمان على جسده..!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن