اقتصاد

سورية – القرم.. إنها البداية

| علي محمود هاشم

إنها «بداية جيدة»..
البحار الخمسة، هذا المتراس المشرقي الذي خرج يواجه بشائع «الشرق الأوسط الكبير»، عادت أمواجه للتلاقي مجدداً بعدما أتى زبدها الزكي على محاولات الغرب بناء أحلامه على رمال شواطئها منذ احتلال العراق وحتى (ربيعه).. انتهى عصر الأخيلة المريضة بالنفط والغاز، وعاد المهزومون إلى ممارسة (العرضات) وهذه المرة بالمناشير الكهربائية لا بالسواطير، رؤوس أخرى أينعت، وها هي تترنح أمام رقعة بحار الشرق الخمسة التي حاول بعض (أهلها) طعن مياهها، وما ولد من لدنها على دروب الحرير، وما ارتسم على خرائطها من أحلام «أوراسية» جديدة.
سورية والقرم.. أنها البداية فقط..
راهنا، ومن باب الرفق بالخرائط، لا يمكن وصف الأمر بأكثر من ذلك.. لكن ذلك لا يغير من ملامحها كباكورة لقسمات العالم الجديد لحظة خلاصه من قرون ستة قضاها متعرّقا في قبضة الغرب، هذا ليس تأويلا رغائبيا للحدث، فالكلمة التي أهرق فيها الدم دفاعا عن الدم، أثمرت تلاقي متوسطها بأسودها، وما أدراك ما الأسود والمتوسط: محطة الحرير الآسيوية الأخيرة إلى العالم، وحصن أوراسيا الجنوبي.
سياقات رديفة رافقت (البداية) التي دشنّها الأسود والمتوسط، فهنالك معبر (نصيب/ جابر) الممتد إلى خليج العقبة على الأحمر، و(البوكمال/القائم)، أو لربما (التنف/الوليد) رفيقا الخليج العربي وقفل طوق المتوسط الذي تتوزع حباته حتى شواطئ بحر قزوين.
وبرغم الألاعيب البريطانية الرخيصة التي تتربص على الجهة المقابلة من (نصيب)، أو تلك البهلوانيات المزدوجة التي تحاول الجيوش الأميركية والبريطانية والفرنسية ممارستها عبر استعمال ثنائية التنظيمات (الكردية/ الداعشية) سواء عند التنف، أم على بعد أمتار من المقاطع البرية لمعبر البوكمال، فإن الفضاء الآيل للتشكل غرب آسيا، يحيلها ترهات منولوجية سيعلم ممارسوها قريبا من أي منظور قاري سيتلقون الردّ.
(البداية) السورية القرمية هي اللبنة الأولى لبناء آسيا الجديدة غربا، هي طريق قزوين النقية من العثمانية، والحصن الجنوبي لأوراسيا، وهي انعتاق الشرق من الفجوة التركية الخليجية التي لا تقوى على الفكاك من ولائها الناتوي رغم كل الخزعبلات التي تحاول اجتراحها، هي انتصار حضارة اليابسة الأوراسية على هزائم الحرب الباردة أمام حضارة البحر الأطلسية، هي دمشق التي يمكن لآسيا أن تنام على يدها غربا دون توجس، وهي التي تشكل، وشقيقتها بغداد، حزامها (الأوروأفريقي).. هي بوابة اللاذقية إلى آسيا الوسطى عبر يالطا، فقناة «فولغادون» الماثلة، وحتى بحر قزوين.
وها هي (البداية) تستكمل حلقاتها عند الحدود السورية العراقية التي، (ورغم كل المحاولات الخارجية لمنع تطوير علاقاتهما الثنائية) كما قال الرئيس الأسد لدى استقباله وزير خارجية العراق، فهي تسير نحو مغزاها الحقيقي فوق جثث الإشغالات الغربية التي عصفت بالمنطقة منذ سبعينيات القرن العشرين وحتى الحرب على سورية، لتطوي بذلك حقيقة الأمر الواقع الأكثر ثباتا شرق المتوسط خلال العقود الخمسة الأخيرة: على أحد البلدان الثلاثة -سورية والعراق وإيران- البقاء كحديقة جيوسياسية خلفية للغرب لكي تظل آسيا منقطعة عن نفسها، ولكي يبقى فضاؤها الجغرافي المحاذي لممرات ومكامن الطاقة عند خط العرض 33، أسيرا بأيدي أعدائها.
البحار الخمسة تستيقظ مجددا، عصر آسيا الفتية يلوح في الأفق بعدما غسل الدم الزكي شطآنها من (التكفير) أمضى أسلحة الاقتصاد الغربية على مدار قرن مضى.. هي البداية والقادم أعظم: المتوسط يهاتف الخليج العراقي، ويفتح خطا مع الأسود وقزوين.. وليس أمام البحر الأحمر سوى التفكير جيداً بخلع قلنسوته السوداء، من المندب وحتى العقبة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن