ثقافة وفن

ربع قرن على رحيل «حسني البورظان» … نهاد قلعي.. أحب الفن فسرى في عروقه وأزهر بنفسجاً وريحاناً وضحى من أجله بسنوات عمره

| وائل العدس

هو عميد ضحكتنا الذي أثبت أن الغياب ليس بقادر على أن يخفي إبداع من عشق موهبته، مرت الذكرى الخامسة والعشرون لرحيله عن دنيانا إلى عالم الخلود الفني بين عظماء الكوميديا في العالم.
من منا لم يسمع بالمقولة الشهيرة: «إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا فيجب علينا أن نعرف ماذا في البرازيل». طبعاُ المقولة ليست لشكسبير أو أرسطو إنما مقولة فنان الكوميديا نهاد قلعي في شخصية «حسني البورظان»، تلك الشخصية التي عاشت معنا في طفولتنا ودخلت بيوتنا كما دخلت قلوبنا وكبرنا معها ولا تزال الأجيال تتابع مسلسلاته وأفلامه مع ثنائيه دريد لحام.
يذكر الجمهور العربي جيداً ملامح الفنان السوري نهاد قلعي الذي ما زالت شخصيته المعروفة «حسني البورظان» حاضرة في الأذهان، كما يذكر مقالبه المضحكة مع قرينه دريد لحام المشهور بـ«غوار الطوشة»، لكن من يذكر أن قلعي هو أول مدير لـ«المسرح القومي» السوري أواخر الخمسينيات، وأحد الذين أسسوا للحركة المسرحية العربية الحديثة ؟
أحبّ الفن فسرى هذا الحب في عروقه وأزهر بنفسجاً وريحاناً، وضحى من أجله بسنوات عمره التي كرسها له.
25 عاماً مرت على وفاة الفنان الكبير الذي رحل عن خمسة وستين عاماً تاركاً إرثاً ثقافياً سيخلده مدى الدهر.

سيرة حياته
ولد نهاد قلعي في دمشق في حي ساروجة – حارة قولي في صيف 1928، واسمه الكامل حسب الهوية الشخصية نهاد قلعي الخربوطلي، والده محمد رفقي ووالدته بدرية العطري، انتسب إلى مدرسة البخاري القريبة من دار الأسرة وكانت هذه المدرسة تعد طلابها إعداداً علمياً وأخلاقياً عالياً، تؤهلهم لإلقاء الخطب والقصائد في المناسبات.
أطلق على نفسه اسم «حسني البورظان» عن طريق المصادفة في برنامج «سهرة دمشق» حيث كان اسمه فيها حسني وفي إحدى المرات نسي الحوار فسعى لإطالة المشهد قليلاً كي يعود ويتذكر ما سيقول وإذ به يرى خلف الكواليس عازفاً يحمل بورظاناً فقال عن نفسه أنه حسني البورظان وإذ بالجمهور يعجب بهذا اللقب فيلتصق به طوال حياته.
أحبّ التمثيل منذ نعومة أظفاره وكان شديد الإعجاب بالفنان عبد اللطيف فتحي، وبعد أن أنهى دراسته الابتدائية انتسب إلى مدرسة التجهيز الأولى وفيها تتلمذ على يدي الفنان عبد الوهاب أبو السعود الذي كان يدرب الطلاب على أداء أدوارهم في التمثيليات التي تقدم في نهاية السنة الدراسية، وكان نهاد يؤدي فيها أدواره بنجاح كبير، عندما أكمل دراسته الثانوية كان أبوه قد أحيل على التقاعد فاضطر لترك المدرسة والعمل، ولأنه كان مولعاً بالتمثيل بادر إلى معهد التمثيل بالقاهرة للانتساب إليه بتشجيع من خاله الفنان توفيق العطري، فباعت الأسرة ما يلزم لتأمين سفر ابنها إلا أن المبلغ نشل منه وكانت كارثة كبرى بالنسبة إليه.
بعد ذلك اضطر للعمل مراقباً في معمل للمعكرونة في حي الميدان، ثم ضارباً على الآلة الكاتبة في الجامعة ثم انتقل بعدها إلى وزارة الدفاع، ، وعمل مساعداً لمخلص جمركي طوال خمس سنوات، ثم عمل لحسابه الخاص، وظلّ يمارس عمله هذا إلى أن بدأ حياته الفنية.

بداياته الفنية
كانت الخطوة المهمة في حياة نهاد قلعي الفنية عام 1946 مع نادي «البرق» الكائن في ساحة المرجة وفي هذا النادي شارك بتقديم مسرحية عنوانها «جيشنا السوري» وفي عام 1954 قام بتأسيس (النادي الشرقي) وكانت‏ أولى المسرحيات التي قدمها تحمل عنوان «الأستاذ كلينوف» وأخذ فيها دوراً كوميدياً، ثم قدم مسرحية «زنوبيا» التي ألحقت بالنادي كارثة مادية كبيرة ظل بعدها سنوات عديدة يسدد ما تراكم عليه من ديون بسببها.
في عام 1957 قدم النادي في القاهرة مسرحية «لولا النساء» ولقيت إقبالاً جماهيرياً كبيراً ونجاحاً باهراً.
وفي شباط من العام 1959 قدم النادي أيضاً على مسرح الأزبكية بالقاهرة مسرحية بعنوان «ثمن الحرية».
وفي العام ذاته كلفته وزارة الثقافة والإرشاد القومي بتأسيس مسرح قومي في سورية.

مع التلفزيون
مع افتتاح التلفزيون العربي السوري في 23 تموز 1960 بدأ قلعي يتألق حيث التقى الفنان الكبير دريد لحام واستمرت مسيرتهما الفنية ستة عشر عاماً إذ قدم برنامجاً منوعاً اسمه «الأسرة السعيدة» وشاركه في التقديم لحام ومحمود جبر وغازي الخالدي وتاج باتوك، وقد شجع مدير التلفزيون آنذاك الدكتور صباح قباني دريد ونهاد على تأليف ثنائي فني وتوقع لهما النجاح، وهذا ما حدث بالفعل، ثم تحول هذا البرنامج إلى برنامج آخر باسم « سهرة دمشق » الذي انضم إليه الفنان رفيق سبيعي وشكل البرنامج أول تعاون رسمي بين الفنانين القديرين « دريد ونهاد » ولقي نجاحاً متميزاً.
ومن أهم الأعمال المتميزة لهما: «عقد اللؤلؤ» ثم «مقالب غوار» و«حمام الهنا» و«صح النوم» وهذه الأعمال لقيت إعجاباً جماهيرياً وما زلنا نتفرج بشغف إلى بعض الحلقات التي تعرض على شاشة التلفاز بين الفينة والأخرى.
وفي السينما اشتركا في واحد وعشرين فيلماً منها «عقد اللؤلؤ» و«لقاء في تدمر» و«الشريدان» و«المليونيرة والنصّابين الثلاثة» و«وخياط للسيدات» و«الرجل المناسب» و«مسك وعنبر» وفيلم «صح النوم» عام 1975.
في عام 1974 قدما مسرحية «ضيعة تشرين» من تأليف محمد الماغوط وكانت من أجمل الأعمال المشتركة بين الفنانين الكبيرين وفي عام 1976 قدما مسرحية «غربة».

ثنائي لا يتكرر
شكل الثنائي الكبير دريد ونهاد ثنائية عظيمة تنتمي إلى طراز التجارب الناجحة غير قابلة للزيادة أو الاستعادة وهي لم تعد ملكاً لأي طرف ولا للمساهمين فيها بل باتت ملك التاريخ والذاكرة.
ولم تكن هذه الثنائية لتنجح لولا جهود بطليها الكبيرين اللذين أسسا لواقع الكوميديا السورية كما نراها اليوم استناداً إلى عبارة «نحن بحاجة لعمرين عمر لنتعلم فيه وعمر لنعيش «التي قالها الفنان قلعي الفنان الإنسان القادم من شتى تجارب الحياة المختلفة والذي مر على عدة مهن ووظائف وبنى أحلاما وشرع آمالاً وصال وجال من دون أن يدري أن القدر لن يفيض عليه إلا بعمر واحد كان عليه أن يتعلم ويعمل ويعيش ويتألم فيه.
وكانت حياة قلعي مملوءة بالتجارب الزاخرة التي كان أبرزها عمله برفقة الكبير دريد لحام ضمن أعظم ثنائية فنية عرفها الوطن العربي في القرن العشرين تلك الثنائية التي ما زالت نابضة حية تستعاد في كل حين ومناسبة على الرغم من قصر عمرها إذ إنها لم تتجاوز ستة عشر عاماً من العمل المشترك.
وكان للإعلامي صباح قباني الفضل في اللقاء الأول بين الفنانين الكبيرين حيث دفعهما حب المغامرة للاستمرار وعن هذا يقول لحام في حوار أورده كتاب دريد ونهاد: اعتبر أن ما دفعني إلى طريق الفن والتحالف الفني مع نهاد قلعي هو حب المغامرة، تبنينا الفن من دون تفكير ومن دون أن أدرسه أو يدرسني، جمعنا استديو التلفزيون السوري وأصبحنا أصدقاء منذ اللقاء الأول ولم نقرر بأننا سوف نستمر معاً الاستمرار جاء مصادفة.
يتابع حديثه عن ثنائيته مع قلعي: الأستاذ نهاد قلعي وأنا لا يشبه أحدنا الآخر لكن داخل الشاشة كنا أصدقاء لكن لم نعش معاً لأن كل شخص كان لديه فلسفته ولديه أسلوب في الحياة مختلف عن الآخر والفن جمعنا وكان الراحل قلعي هو من بادر وكتب بيده (دريد ونهاد) لأول مرة.
ويشير الفنان لحام إلى أنه عندما توقف قلعي نتيجة مرضه عرض بعضهم أن نشكل ثنائياً جديداً لكن كنت أقول لهم إن المسألة ليست مسألة شخص سمين مكان شخص سمين أو شخص رفيع مكان شخص رفيع، فأنا لا أستطيع تبديل الأستاذ نهاد وهو لا يستطيع تبديلي، من المستحيل أن نكون ثنائياً آخر لأنه كان هناك توافق جعلنا واحداً.
وقد تكون تجربة الثنائي الشهير أول وآخر تجربة كوميدية عربية تمكنت من تحقيق شرطي الإبداع المعجز في القدرة على الإضحاك وتقديم مضمون فني هادف في آن واحد عكس كثيراً من جوانب حياة الإنسان العربي بسلبياتها وإيجابياتها.

كل الرضا
في آخر تصريحاته قبل وفاته بأيام قليلة يقول قلعي: «أعيش حالياً جواً من الإحباط، لكنني لو عدت إلى بداياتي، وقيد لي أن أختار حياة جديدة، لما اخترت غير الطريق الذي سلكته، رغم مرارته ووعورته في أحيان كثيرة، باستطاعتي القول إنني لست نادماً على شيء».
وأضاف: أنا راض كل الرضا، لأنني بذلت كل جهدي، وقدمت كل ما استطعت، ولا أظن أنني فشلت، قد لا أكون حققت النجاح الذي أطمح إليه، ويطمح إليه كل مبدع في قرارة نفسه، لكن إنجازاتي تتناسب مع الإمكانات التي أتيحت لي على أرض الواقع.
وفي سؤال إن كان أكثر ميلاً إلى السينما والتلفزيون من المسرح قال إن كل هذه الفنون مترابطة. لكنني أستمتع في العمل المسرحي أكثر، لأنني أنجح في التواصل مع الناس عبر الحضور الحي، واستطيع أن ألمس رد فعل المشاهدين في الصالة بشكل مباشر. وهذه المتعة لا تضاهيها أي متعة أخرى في العالم!.
وأضاف: لا أحد يستطيع أن ينكر دور التلفزيون في عصرنا هذا. فنحن نعيش زمن التلفزيون. لكن الآراء والمواقف تختلف حول حسنات هذه الوسيلة وسلبياتها. أنا أرى في الذهاب إلى السينما مع زوجتي وأولادي، طقساً من الطقوس الاجتماعية، وخاصة أنني أختار الفيلم بنفسي وأذهب إليه. أما التلفزيون، فيمكن مشاهدته في المنزل وأنت تمارسين حياتك اليومية، كما أنه يفرض عليك برامجه.

حادثة طريفة
يردد نهاد قلعي حادثة طريفة يؤكد أنها جديرة بأنها تروى فيقول: طلبت منّي وزارة الثقافة ذات يوم عرض مسرحية «البورجوازي النبيل»، تكريماً للطلبة الذين حصلوا على مراتب عليا في جميع الكليات السورية، وذلك في إطار الاحتفالات التي أقيمت في مناسبة وصول ناظم القدسي إلى سدة الرئاسة واستلام خالد العظم مقاليد رئاسة الوزراء. وفي اليوم المحدد، قبل ساعة من موعد بدء العرض، توجهت إلى «مسرح القباني» للتأكد من أن مسؤولة الملابس جهزت جميع الملابس والاكسسوارات المطلوبة للمسرحية. كنت متوتراً، مضطرباً، والرهبة تملؤني.
وعندما بدأت أرتدي ملابسي، اكتشفت أنها ناقصة، فهرعت أبحث عنها في غرف الزملاء لكن دون جدوى. وما كان مني إلا أن ركلت الباب بقدمي لشدة الغضب، ولم يكن يكسوها سوى نعل خفيف. فانكسر الباب، وانكسرت قدمي. وتم إحضار الأطباء على الفور، فقرروا بالإجماع منعي من الحركة. وجدت نفسي في حيرة من أمري، لكني قرّرت أن أقدم المسرحية رغم كل شيء.

وصيته الأخيرة
قبل أيام قليلة، أجرت مها قلعي ابنة الفنان الراحل حواراً مع إذاعة «ميلودي إف إم» أكدت فيه أنها غير راضية عن مشاركة والدها في مسرحية «غربة» والظروف المادية أجبرته على العمل فيها، وقالت: مسرحية (غربة) بالنسبة لي خط أحمر، ونصحت والدي مراراً وتكراراً بعدم المشاركة بهذا العمل. فوالدي ظلم في حياته وفي مسرحية غربة تحديداً، وكانت سبب بكائه، وسألوني في إحدى المرات لماذا كان دور والدك صغيراً في مسرحية غربة؟ فأجتبهم: لا يوجد دور كبير ودور صغير.. يوجد فنان كبير وفنان صغير.
وأوضحت أن مسرحية «ضيعة تشرين» بُدّلت فيها الأدوار قبل 15 يوماً من العرض، حيث كان من المفترض أن يقوم والدي بتأدية دور «أبو صالح» وأن يقوم الفنان القدير دريد لحام بتأدية دور «المختار».
وعبّرت قلعي عن حزنها لترك والدها المسرح القومي رغبةً منه في استمرار الثنائية مع الفنان القدير دريد لحام، وأشارت إلى أن الفنانة نادية لطفي جاءت من مصر إلى لبنان بعد أن كانوا قد أنهوا فيلم «الرجل المناسب»، وكانت قد عرضت عليه المشاركة بأكثر من فيلم، لكنه رفض رغبةً بالبقاء في الثنائية.
وأكدت أن والدها خاب ظنه بأصدقائه بعد توقعه أنهم سيقفون إلى جانبه في مرضه، علماً أن هناك بعض الشخصيات الفنية لم تفارقه خلال تلك الفترة مثل رفيق سبيعي وسهيل عرفة والكاتب عمر حلبي.
وكشفت قلعي عن وصية والدها قبل وفاته، حيث طلب أن يبقى في البراد 48 ساعة ولا يُدفن مباشرةً، وقالت قلعي: سمع والدي من عمه الدكتور وحيد حقي قصة رجل استيقظ بعد أن دُفن، لذلك خاف أن يستيقظ وهو في القبر.

تكريمات
كرّم السيد الرئيس بشار الأسد عام 2008 كل من الفنانين نهاد قلعي ورفيق سبيعي وعبد اللطيف فتحي بمنحهم وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة وذلك لإنجازاتهم في خدمة الفن.
وقبل شهر، كرمت وزارة الثقافة عائلة الفنان الراحل تقديراً لدورها بالحفاظ على تراثه.
بدورها أقامت جمعية أصدقاء دمشق بالتعاون مع مكتبة الأسد الوطنية قبل ثلاث سنوات حفلاً تكريمياً للفنان الراحل بمناسبة مرور اثنين وعشرين عاماً على رحيله تقديراً لمسيرته الفنية الغنية ولأعماله التي ساهمت في إرساء دعائم الدراما السورية، وتم الإعلان في نهاية الاحتفال عن موافقة مجلس محافظة دمشق على تسمية شارع في منطقة المهاجرين مكان إقامة الراحل نهاد قلعي باسمه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن