ثقافة وفن

«الإنتروبيا والشعر» استفادة من العلوم الفيزيائية والسياسية … إذا حققت متعة للآخرين واخترقت عاداتهم وطقوسهم المعتادة فستصل إلى قدرة المجابهة

| سوسن صيداوي

كل فعل أو حركة أو فكرة أو شعور في حياة أي فرد يتطلب وجود طاقة لإنتاجه ومعالجته، أولية أو تركيبية، لا تلبث أن يتبدد جزء منها أثناء الفعل، فيصبح الناتج أقل من الطاقة المبذولة». وباستعارة مفهوم (الإنتروبيا) بنظرة الفاحص المتأمل، تشكل السلطة الخفية التي تسيّر الوجود. من هذه العبارات جاءت الدراسة (الإنتروبيا والشعر)، تأليف: محمود نقشو، الصادرة حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب بواقع287 صفحة من القطع الكبير، مقسماً إلى ثلاثة أبواب.

وفي التعريف يضيف بأنّ تحمل كل حالة تجدد وديمومة مرئية في ثناياها إنتروبيا تبددها الخاصة التي تتجلى باندثار ملايين الخلايا في الدقيقة الواحدة داخل الجسم الحي، وهذا هو الفعل الإنتروبي المتواتر: هدر مؤبد لصيغ البقاء، ونفي قاطع لفكرة الخلود؛ ولن تتوقف محاولات التجدد قط ما دامت الحياة قادرة على الاستمرار.
إن البشرية وأحلامها ونواتج إبداعها وكشوفها وحضاراتها، وقصص العشق والمجازفات والمغامرات، وتجليات الفنون والثقافة الشعبية ما هي إلا تحديات متواصلة لكابوس وسلطة الإنتروبيا التي تمتلك سيادتها المحسومة، وتتحكم بسياقات الوجود بفداحة ما تبدده وليس بعظمة ما أنتجه الإنسان طوال العصور.

جدلية الطاقة والإنتروبيا
اعتبر الباحث محمود نقشو في دراسته وتحت هذا العنوان، بأن أقرب وصف للإنتروبيا هو أنها (ظل الطاقة) الذي يلازمها كما يلازم الإنسان ظله، وبهذا فإن وجود إحداهن يدل على الأخرى… مشكّلتين علاقة جدلية تفسّر ظواهر عديدة في الحياة. متابعاً: «إنه من المعلوم أن الطاقة تسود المكان والزمان، وهي ثابتة في كميتها. لكن النور يستتبع الظل. كذلك شأن الفوضى، إنها ظل الطاقة. والفوضى هي الإنتروبي، حيث تحاول الإنتروبيا دائماً تخريب ما تصنعه الطاقة، فإذا كانت الطاقة هي الترياق من باب المقاربة والتشبيه، فالإنتروبيا هي السم، وعلى عكس الطاقة تزداد الإنتروبيا على نحو مطرد. وكان يُظن حتى فترة قريبة أن الإنتروبيا هي مفهوم إحصائي محلي يرتبط بكل حيز مغلق، إلا أن العلماء اكتشفوا أن ازدياد الإنتروبيا قانون كوني. وعلّة ذلك أن أي فعل كوني لا ينجز إلا بتحول كمية من الطاقة من شكل لآخر. لكن هذا التحول غير متوازن، بمعنى أن جزءاً من الكمية المذكورة يتبدد على الدوام، ويمثل هذا التبدد ازدياد الإنتروبيا، وهكذا مع مرور الزمن تتبدد الطاقة الكونية بكاملها. وتبدو السيالة الزمنية المتجانسة عاجزة بحد ذاتها عن إجراء أي تغيير، لذا لا بد من بذل الطاقة وازدياد الإنتروبيا دائماً».

الشعر في العصر الإنتروبي
يقول الباحث: إن الكلمة طاقة لها معنى، والمعنى هو فكر منظم في شكل قانون حركي وهو يمثل القوة وراء الكلمة، ولكي يكون هذا القانون نافذاً يلزم أن يشتمل على الحكمة اللازمة لتحقيق التوازن التام. مضيفاً: «الناس في حياتهم لا يستخدمون من اللغة إلا ما يكفي لتحقيق الاتصال العادي أو قضاء الحاجات البسيطة التي تعودوا على قضائها كل يوم. وبإحصاء عدد الكلمات التي يستخدمها الناس في حياتهم اليومية يتضح أنها لا تزيد على مئتي كلمة، وهي قاموسهم المحفوظ الذي يعبّرون به عما هو شائع مشترك بينهم. ولا شك أن هناك مستويات من اللغة أرقى وأغنى من هذا المستوى يستخدمونها في مناقشاتهم السياسية، واتصالاتهم الفكرية، وكتاباتهم النثرية على اختلاف أشكالها. لكن في الشعر مستوى آخر أو هو بعبارة أدق لغة أخرى».
مضيفاً: إن الشعر هو اللغة الساحرة التي يتغنى بها الناس ويهتزون على إيقاعها ويتصلون فيها بالطبيعة ويملكون الزمان والمكان، هو هذه اللغة الشاملة التي يتمثل بها أنفسهم، ويقبضون على العالم ويصطادون كل ما فيه من موجودات لأنها لغة ناطقة مصورة مفكرة تجمع بين الماضي والحاضر، الخيال والواقع، الحلم والحقيقة، المعقول واللامعقول. متابعاً: «أما اليوم فالوضع قد تغير، إذ إن الشرعة التي تميّز العصر، وانتشار نتائج الحضارة الصناعية الحديثة وغلبة الاتجاه العلمي المحض على المجالات الثقافية في أكثر بقاع العالم، وكون الإنسان قد صار مأخوذاً بعدد كبير من المغريات ووسائل التسلية الكثيرة الميسورة، التي تكتنفه من كل جانب، وضمور القرائح الشعرية نفسها، بالقياس إلى العبقريات التي ظهرت في الماضي، وشغلت أجيالاً بروائعها، والخيبة المريرة التي أصابت إنسان العصر بغياب الحلم وازدياد متسارع في مستويات الإنتروبيا غير مسبوق، كل هذه العوامل وغيرها، جعلت أصواتاً عالية ترتفع هنا وهناك، منددة بالشعر، زاعمة أنه فن بدائي، يمثل عقلية الإنسان في عهد الطفولة الإنسانية، ولا يتلاءم مع الذهنية الحديثة، التي تميل إلى الموضوعية والدقة العلمية». خاتماً هنا بنقطة تقتضي «كل ذلك يدفع باتجاه النهوض بالشعر من مبدعين قادرين على بث الحياة في هذا الفن العظيم من جديد.. كي تعود الحياة ذاتها أحلى.
في الشعر حضور الحلم والرؤيا، وفي غيابه سيادة الجفاف والإنتروبيا».

الإنتروبيا ومستقبل الشعر
في الشعر قواعد وانسجامات وتشكيلات نصية تضفي شيئاً من الانتظام على الحياة في مواجهة الإنتروبيا المتكاثرة والمتعاظمة والمحيطة بالإنسان المعاصر والحياة عموماً، ويضيف الباحث محمود نقشو: «وفي الشعر من حقل الجماليات الكثير من الفنون الجميلة، وبالأصل القصيدة في بنيتها تمثّل تصميماً معمارياً جميلاً للغة، وغالباً ما يأتي مع كل قصيدة جديدة برؤى تصميمية تزيد من انتظام الطاقة العامة للحياة، ومن انتظام الطاقة الشخصية للقارئ والمستمع على السواء». متابعاً: في مكان آخر: إن الإنتروبيا تقيس الفوضى والفشل وعدم النظام والتردي.. تتلبس الطاقة المبدعة وتتلطى في الزوايا، كي تنال منها، وتقيدها، أو تمنع عنها المزيد، في صراع وتجاور دائم ولصيق بالإنسان، والإنسان المبدع خصوصاً. إذاً فالقصيدة ليست مجرد مجموعة من الخواطر أو الصور أو المعلومات، لكنها بناء مندمج الأجزاء، منظم تنظيماً صارماً. وعليه أصبحت القصيدة نوعاً من تمثيل العالم، وتشكيلاً جمالياً وفنياً للوجود، في إعادة إنتاج حيوية للمعنى الكوني بأنموذجه الجمالي وهو يفسّر حركة الأشياء تفسيراً شعرياً نوعياً.

من الخاتمة
يرى الباحث بأن الإنتروبيا هي كل الضائع والمبدد والفاشل من طاقاتنا وأعمالنا وأحلامنا.. ما نخطط له ويفشل، أو ما نحققه بنسبة إنجاز بسيطة.. هذا الهدر في الوقت والخبرات والإمكانيات يزيد من فشل العالم والكون في مواجهة الطاغوت (الإنتروبيا) ويأخذ الإنسان خطوة أخرى باتجاه الفناء. هذا من جهة ومن جهة أخرى يضيف محمود نقشو: «إن إبداع الشاعر لقصيدته لا يختلف في جوهره عن تحقيق خلق مماثل. بل هو في الحق استمرار للإبداع الأول، وتكريس لتلك الحرية الباطنة في الكون التي تعطي الوجود معناه. وقد استطاعت هذه الحرية، عبر ارتقاء الحياة على الأرض، أن تتجاوز المعوّقات (الشواشية)، لا بل أن تسخّرها كما يحلو لها، محوّلة الضجيج والكوارث إلى خلفية دافعة للتطور إلى الأمام».
مشيراً في النهاية إلى «تحمل كل حالة تجدد وديمومة مرئية في ثناياها (إنتروبيا) تبددها الخاصة التي تتجلى باندثار ملايين الخلايا في الدقيقة الواحدة داخل الجسم الحي، وهذا هو الفعل الإنتروبي المتواتر: هدر مؤبد لصيغ البقاء، ونفي قاطع لفكرة الخلود. ولن تتوقف محاولات التجدد قط ما دامت الحياة قادرة على الاستمرار. إن البشرية وأحلامها ونواتج إبداعها وكشوفها وحضارتها وقصص والعشق والمجازفات والمغامرات وتجليات الفنون والثقافة الشعبية، ما هي إلا تحديات متواصلة لسلطة الإنتروبيا التي تمتلك سيادتها المحسومة، وتتحكم بسياقات الوجود بقداحة ما تبدده وليس بعظمة ما أنتجه الإنسان طوال العصور».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن