ثقافة وفن

لا أخت لغافية الورد

| إسماعيل مروة

ألقى وردته فكانت شامية العبق والألوهة، أنثى ولكنها عبق الشيخ الأكبر والأولياء الصالحين، تاهت الوردة بين الأسرّة، لقد قذفها من بعيد خوفاً على محبوبته من أن تعرف بين الناس، ومن أن يعرف الناس حسنها فيكثر عشاقها! كان لدروشته يظن أنه وحده من يدرك حسنها! ولكن ابتسامتها كانت عالماً من نور يضيء الكون، فهناك ضوء منير لصليب دهشتها ينير، وهناك منارة من مسجد شيخها الكبير تصل إلى أصقاع بعيدة، وضوء عينيها يقترب ويبتعد، فذا يتعلق بها، وذا يتعشّق، وهو في مرتبة من الوله لا يصلها أحد في الكون، هو في مرحلة التعبّد والتماهي.. ألقى وردته، ولا يريد لأختها ولفتنتها أن تسلبه انجذاباً لقباب ومغاور وأزقة خلفية، لا يريد لأي شيء في الكون أن يسرقه من بهجته بالتلاشي عندما يغمره مطرها وثلجها وريقها، وينهمر عليه من مغاراتها من أعلى قاسيونها إلى غوطتها التي تنزّ عطراً وغذاء يتلمسه بيديه وهو يبحث عن دهشته في الانصهار الكلي بدمشق الفتنة التي لا تضاهى.. أزقتها عشق ونور، فوضاها جمال وحسن،ـ وحسنها ألوهة متطاولة زماناً ومكاناً.
ألقى وردته وكانت عبقاً
بقيت الوردة عشرة آلاف سنة في محيط خصر، في مفرق شعر، أو على صدر وهو يرقب شامه تحت نافذة لعل ستارة تنزاح بأنفاسها لتعطيه أملاً بحياة أكثر رغداً، لعله يصل إلى صلاة لا يرفع رأسه بعدها عن جوف مغارة يتصوف فيها ويحيا لها وبها ما تبقى من عمر! يرقب ويترقب، ويقتله الخوف من أن تقترب شفاه مترهلة من قداسة المغارة لتسرق عشرة آلاف عطر عن جبين دمشق، لتقطف عشرة آلاف وردة من شام الهوى والروح والعقل.
في زاوية شاغورها يقبع الفارابي الذي عاف الكون، ليصنع وتراً مشدوداً لعود موسيقاه والهوى رموش عينيها، ما يزال هناك يجلس، يصنع ويهمل، مات حسرة لأنه عجز عن مجاراة حسنها، لكن روحه تهوّم فوقها لتحاول أن تصنع وتراً للعود يمتد من الرمش إلى الرمش، من قاسيونها إلى ميسلونها.
خلف الستائر المرخيات هل تقترب شفة متهدلة من حسن دمشق الخالدة؟
هل يلوث طهر مساماتها عهر عاهر حمل ورداً بلا رائحة نبت على حواف المستنقعات؟
وكانت دمشق، على مفرقها وردة عشق، وعلى خصرها نبل ساعد محب، وعلى روحها وشم طهر تدلى من سماء لا تعرف الأرقام التي نعرفها.. جاء هولاكو وتيمور، جاء سليمان وجمال، جاء غورو وساراي، وكلهم رحل من دون أن يفلح في اقتلاع وردة الطهر!
وبقي مدعٍ متهدل… شفته تصل أسفل القدم، يرطن ويحاول الاقتراب من شام، ساعة تكتشف، وساعة يتهيأ له أن ما أشبه الفالج تحوّل إلى مغارة تحتوي دمشق.. وذات لحظة تقدم المتهدلون، ألقوا على سرير دمشق وردهم وقبعوا منتظرين، صلوا صلواتهم الشيطانية أن تصل وردهم إلى سريرها لا سرير أختها.. وحين دوى الانفجار كان وردهم رصاصاً دخل في روح ورحم أمهاتهم، تعالى الانفجار.. وصل كل مكان، وحين انجلى الغبار كانت شام تتبختر.. لم يصلها ورد حقدهم، لا أوغاد في طريقها، انزاحت الستارة، ظهر كل شيء خلفها.. كان ملقىً يندب أمه التي طالها ورد غدره، وكانت دمشق تتبختر، فهي لا سرير لها، ولا أخت لها لتستلقي إلى جوارها .. (شو عرّفو أيّا أنا تختي وأيّا تخت أختي) لا أخت لدمشق… ولم يخطئ العابد فقد كان يشلح ورده على سريرها وحوّل العالم الدمشقي إلى كون من ورد.. كل يوم، كل ساعة، كل عام، كل دهر، وهي الخير وبخير وهي الورد الذي يعجز العهر عن شمّه.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن