العواصم لا تنام
| حسن م. يوسف
«القاهرة هي المدينة الوحيدة في الوطن العربي، بقية التجمعات البشرية هي مجرد قرى كبيرة». أمس تذكرت هذه الفكرة التي قالها لي الكاتب المسرحي الكبير سعد الله ونوس في صالون بيته لآخر مرة، قبل أيام من اكتشاف إصابته بسرطان البلعوم الأنفي عام 1992. السبب المباشر لاستعادتي هذه الذكرى هو أنني نزلت أمس الأول الجمعة مع عديلي التونسي بلقاسم حسن إلى مركز مدينة دمشق، وقد صدم الرجل إذ وجد كل المحلات في دمشق مغلقة باستثناء المقاهي والمطاعم. وعديلي هذا لمن لا يعرفه هو شخصية بارزة في بلاده إذ إنه شغل لسنوات طويلة منصب المتفقد العام – أي المفتش العام – لمادة التاريخ في وزارة التربية التونسية، وهو عاشق لدمشق كما أنه عضو قديم في المؤتمر القومي العربي.
سألني بلقاسم: «هل التجار هم الذين يغلقون محلاتهم من تلقاء أنفسهم، أم إن الجهات المسؤولة هي التي تلزمهم بذلك؟»، أبلغته أن شرطة المحافظة تجوب الشوارع وتخالف أصحاب المحلات المفتوحة، عندها أبدى دهشة شديدة وقال لي: في كل بلدان العالم يستغل العامل والموظف يوم عطلته للتسوق وتأمين حاجات أسرته طوال أيام الأسبوع، فكيف تغلقون الأسواق في أيام العطلة! هذا شيء غريب لا مثيل له في أي مكان، وهو أمر يضر بمصلحة المواطنين والتجار ومن ثم فهو يضر بمصلحة الاقتصاد الوطني.
قلت له: أحسب أننا قد ورثنا هذا التقليد من أيام الاحتلال التركي، ولم يخطر ببال أحد أن يضع حداً له. المهم في الأمر هو أن عديلي العزيز بلقاسم لم يغلق الموضوع إلا بعد أن استخلص وعداً مني بالكتابة عنه وها أنذا قد فعلت.
قبل سنوات أعربت للإعلامي المصري الصديق الأمير أباظة عن رغبتي في الانغماس بليل القاهرة الذي طالما حدثني الصديق سعد الله ونوس عنه، فأمضينا جل الليل ننتقل من مكان إلى آخر، وأثناء تلك الجولة علمت من شخص يجلس مع عائلته على رصيف أحد الجسور أنه يقيم في بيت نصف إيجار؛ والحقيقة أنني وجدت شيئاً من الصعوبة في فهم عبارة نصف إيجار، ثم تبين لي أن بعض الأسر تستأجر البيت خلال ساعات النهار فيما تستأجر أسرة أخرى البيت نفسه خلال ساعات الليل!
قرابة الثالثة والنصف فجراً ذهبنا إلى مطعم شهير للفول والطعمية، وقد اضطررنا لأن ننتظر نحو ثلث ساعة كي نحصل على طاولة. قلت للنادل: «متى تغلقون المحل إذا كان الازدحام عندكم قبل الفجر هكذا». فابتسم وقال: «بص للباب»! نهضت وتفحصت الباب فوجدت أن الغبار الذي تراكم أسفل الباب قد حولته أمطار الشتاءات إلى طين، ثم جاءت الشموس المتتالية فحولت الطين إلى ما يشبه الفخار. كان منظر الباب يوحي أنه لم يفتح منذ عقود.
في تلك الليلة فهمت السر وراء كلمات الصديق سعد الله ونوس عن القاهرة. وقد كتبت في دفتر ملاحظاتي الكلمات التالية:
أهم سمات المدن الكبرى هو أنها غالباً ما تكتم سرها عن غير المبدعين من أبنائها، والقاهرة لها من اسمها نصيب، فهي تقهر الفضولي الذي يود أن يعرف عنها كل شيء، لأنها تشبه الحقيقة التي تتغير قبل أن يحيط الناظر بكامل أبعادها! فالقاهرة تؤلف الأسرار، طوال الليل والنهار، ومقابل كل سر يتم اكتشافه، تؤلف القاهرة عشرات الأسرار، لتصبح بذلك لغزاً حياً يتدفق أبداً كالنيل، يباركه ضحك المصريين الطيب!
أحسب أن النوم شكل من أشكال الموت، وقد اجترحت دمشق مأثرتها الحية على مدى آلاف السنين، فلا تجبروها على النوم يوم الجمعة!