ثقافة وفن

لا رقابة متشددة على عروض المسرح … «حفلة على الخازوق».. تشبه مخرجها وتتقاطع مع ونوس وتذكرنا بعدوان

| نهلة كامل

نقدر شعور فناننا الكبير زيناتي قدسية، وهو يختار مسرحية «حفلة على الخازوق» لتقديمها الآن على مسرح الحمراء، فهو نوع من الحب للجمهور والإيمان بالمسرح العربي، والوفاء لتاريخ الحياة المسرحية السورية، النص الذي كتبه محفوظ عبد الرحمن، كان علامة فارقة أينما عرض والمسرحية أدهشتنا في قمة ازدهار مهرجان دمشق المسرحي عام 1977.

مسرحية تسكن ذاكرتنا
«حفلة على الخازوق» نص لمحفوظ عبد الرحمن وهي أحد أهم الأعمال المسرحية التي لا يمر عليها الزمان، والتي قدمت للمسرح العربي في وقت ازدهاره، واهتمام الحكومات العربية به، جملة أهداف مهمة، أولها تأصيل المسرح العربي، ثم تقديم فرجة مسرحية تفسح الفضاء المسرحي لإحياء الفلكلور التراثي، وثالثها تقديم إمكانيات جمالية متعددة تتيح للمسرحية التنوع والتجدد المشهدي كلما عرضت في الزمان والمكان كإحدى أهم المسرحيات العربية.
ولعل فناننا الكبير زيناتي قدسية وهو يدرك أبعاد نص محفوظ عبد الرحمن يعرف أنه امتلك أبعاداً عديدة لتقديم هذه المسرحية الساكنة في ذاكرتنا الثقافية المسرحية فأحسن توظيفها كمسرحية تراثية رشيقة في جذب جمهور المسرح الحالي، وثانيها في تجديد مفهوم لعبتها المسرحية- السياسية، وثالثها في إحياء الثقافة المسرحية العربية في ذهن المشاهد الحالي الذي لا يعرف أعلامها الفكرية ولا تاريخ عروضها المسرحية المتألقة.
بالتأكيد نشعر جميعاً، ممن عاشوا تلك المرحلة المزدهرة مسرحياً، بذلك الحنين العميق لما مثلته «حفلة على الخازوق» للمتفرج السوري خصوصاً والعربي عموماً، وهي تصلح الآن لتحديد معنى الزمن الثقافي الجميل في أوساط الأجيال الجديدة، لكن الحنين وحده ليس السبب الذي بنى عليه قدسية عرض المسرحية على خشبة الحمراء الآن.

شعبية مدعومة
تقدم مسرحية «حفلة على الخازوق» لقدسية ذلك البعد الشعبي الذي تحقق في اجتذاب الجمهور الجديد للمسرح، الذي كان مملوءاً حتى آخر أيام العرض، واللافت هو جمهور الشباب، هذه الظاهرة التي تثبت تعطش هذا الجيل للاحتفالية المسرحية، الذي عززته وزارة الثقافة ومديرية المسارح بتعرفة تذكرة شبه مجانية، نحو مئة ليرة سورية، ما يؤكد حرص المديرية على خلق عادة ارتياد المسرح كطقس ثقافي.
ووضعت المسرحية بين يدي قدسية فرصة تقديم فرجة تراثية مبنية على حكاية معروفة، من ألف ليلة وليلة، تتناقلها الأوساط الشعبية شفاهاً في أكثر من بلد عربي، وهي حكاية المرأة التي توقع الرجال الفاسدين في شر أعمالهم، وتجمع المتصيدين لجمالها في مكان وزمان واحد، وتخبئهم معاً لتتكشف بالنهاية نياتهم الشريرة وأفعالهم الفاسدة.
وأتاحت المسرحية، كما قدمها زيناتي قدسية، معالجة أكثر من فكرة متأصلة في البنية العربية، يمكن أن تكون في كل زمان وتتنوع في كل مكان، وقد نجح قدسية في اختيار البعد الاجتماعي- السياسي لمسرحيته، كما كان موفقاً في اختيار البعد الإنساني المتمثل بحياة المرأة ا لعربية الذكية في التراث، والواعية في مجتمعنا الحاضر التي تحاول التغلب على عقبات ظالمة في بيئتها، كما أجاد في اختيار بطلة المسرحية وتقديمها بدور «هند» وهي الممثلة الجميلة التي برعت وتألقت في دور تابعه الجمهور طوال المسرحية بمتعة وإعجاب.

آلية الفساد
تتركز رؤية قدسية في مسرحية «حفلة على الخازوق» على كشف آلية الفساد في المجتمع العربي وتراتبية بنيته وسلوكه، رؤية تذكرنا بمفهوم مسرحية ملك المسرح السوري سعد الله ونوس: «الملك هو الملك» ولا تترك المسرحية مجالاً للتأويل والترميز في اتهامها، فهي مباشرة وواضحة تبدأ بعرض رشيق سافر، يصور فئات الشعب المظلومة والمهددة بالموت فوق الخازوق، هي آلية الحكم الجائر، والعدالة المفقودة التي تواجهها «هند» التي تريد إخراج زوجها البريء والمظلوم من السجن، فبدأ بمدير السجن الذي يطلب منها مقابل إعطائها صك براءة لزوجها لقاء في منزلها فتعطيه موعداً يوم الخميس، لتنقل إلى مستويات أعلى شاكية مطالبة بالعدل، لكنها تواجه تلك التراتبية المتصاعدة من حلقات الفساد التي لا تنتهي، بعد مدير السجن سنجد المحتسب ونائب الزعيم اللذين يطلبان الموعد نفسه من أجل تقديم صك البراءة فتجمعهم كلهم يوم الخميس.
وتنفذ المسرحية مشاهد التقاء الفاسدين في منزل «هند» يوم الخميس ببراعة تقنية اعتمدت على صندوق خشبي من أربع طبقات خبأت فيه المرأة مدير السجن، ثم المحتسب، ونائب الزعيم، إضافة إلى صانع الصندوق الخشبي، متذرعة أثناء كل لقاء بقدوم رجل آخر لعله زوجها.
وتقدم المسرحية، في مشهد يوم الخميس، كوميديا مواقف ساخرة أحبها الجمهور وضحك معها بعفوية مستوعباً اللعبة الاجتماعية السياسية وتجذر الفساد الذي لا ينتهي إلا بقدوم الزعيم نفسه ليشاهد أفراد حكمه جميعاً في صندوق الفاسدين فيقوم بعزلهم جميعاً وتعيين نائب جديد له..
ويجب الإشارة هنا إلى الأداء الجميل لكل من الممثلين كفريق منسجم يقدم حركة إيقاعية ولأفراد برزوا في أدوارهم كالفنانين البارعين محمود جليلي وعلي كريم وجمال العلي ومصطفى مصطفى وزهير بقاعي وقصي قدسية ونورس أبو علي.

تسييس ناجح وجرأة لافتة
وتشبه مسرحية «حفلة على الخازوق» مخرجها المبدع زيناتي قدسية، فهي تنتمي إلى مسرح التسييس العربي والغضب الإبداعي والعدالة الاجتماعية كما ظهر في القرن الماضي، وكان له كتابه وفنانوه الكبار في سورية والبلدان العربية، حين قدم زيناتي قدسية الممثل القدير أدواراً مسرحية لافتة وكان جزءاً من تلك التظاهرة المسرحية العربية في زمنها الذي نقول إنه جميل وكانت روحه المسرحية ولا تزال في «حفلة على الخازوق» تشبه إبداع ممدوح عدوان.
ويجدد قدسية في تسميات مسرحيته، انطلاقاً من انتمائه الفكري، فتأخذ تسمية الزعيم مفهومها العربي العام بدل تسمية الحاكم أو الوالي أو الأمير في التراث العربي، لكنه يؤكد أن آلية الفساد لن تنتهي بالعزل لأن الزعيم وهو يعين نائباً جديداً له، يكرر بنيته السياسية ذاتها، حيث يقوم هذا النائب في نهاية المسرحية ليطلب من هند تحديد موعد له في منزلها يوم الخميس.. وتجعل هذه النهاية والتسمية والإضافة اللافتة مسرح قدسية يتقاطع مع مسرح سعد الله ونوس في «الملك هو الملك» الذي لا يعطي التغيير مفهوماً جذرياً، بل يحكم عليه بالتكرار..
وهكذا نشاهد على مسرح الحمراء الآن عرضاً جريئاً مسيساً لافتاً، له جمهوره الواسع، يعطي المخرج زيناتي قدسية حق الذهاب إلى أبعد أهدافه المسرحية، ويتبنى وبالأحرى يتابع الحركة المسرحية السورية اللافتة في القرن الماضي، ولهذا دلالات إيجابية كثيرة على توجه الثقافة ومديرية المسارح في قرارها لإحياء المسرح السوري الآن.
لكننا في الطريق إلى تحقيق أهداف وزارة الثقافة ممثلة بمديرية المسارح لابد أن نلاحظ أن الحركة المسرحية الآن تنجح في استقطاب عشاق المسرح من المبدعين السوريين وتعطيهم حرية الإبداع والاختيار، هكذا شاهدنا زيناتي قدسية يترجم عشقه في مسرحية حفلة على الخازوق، كما شاهدنا المبدع الكبير أيمن زيدان في عروضه الجريئة اللافتة، كما يتحقق ذلك الهدف المهم في حياتنا الثقافية والمسرحية وهو الإقبال الجماهيري على ارتياد العروض المسرحية لعله يعود طقساً شعبياً سورياً.. لكن الدعم الأهم هو أن لا رقابة متشددة على عروض المسرح السوري.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن