ثقافة وفن

حكيم الدّهر أبو العلاء المعرّي… وحياة مملوءة بالأسرار …رهين المحبسين رهينُ كتاب الجيب

عامر فؤاد عامر : 

يحمل كتاب الجيب تلخيصاً كبيراً لحياة الشاعر الحكيم «أبو العلاء المعري»، ويقدّم «مالك صقور» حياته بصورةٍ سريعة الإيجاز، من خلال المقدّمة، ومما جاء فيها: «ترعرع الصبي في بيت عريق، ورث القضاء، والعلم، من جهتي الأمّ والأبّ، لكن النحس وسوء الطالع لم يتركا الصبي يهنأ بطفولته، فما أن بلغ الرابعة من عمره، حتى أصيب بمرض الجدري، الذي لم يذهب عنه إلا بعد أن أذهب بصره… ». ويبيّن الكاتب أن ما حلّ بأبي العلاء المعريّ من مرض أفقده المقدرة على الرؤية، هو سبب بارز في تفوّقه في بصيرته عن عمرٍ مبكر من حياته، ومن الطرائف التي حصلت وهو صغير أن ذات يوم، وبعد أن ذاع صيته في الذكاء والمبارزة الشعريّة جاءه من حلب زائرون إلى معرة النعمان حيث يقطن، ليروا ما هو عليه من هذا الصيت الذائع في سرعة بداهته، «فرحب بهم، وقال لهم: هل لكم في المقافاة في الشعر، فقالوا: نعم، فجعل كلّ واحد منهم ينشد بيتاً، وهو ينشد على قافيته، حتى فرغ محفوظهم بأجمعهم، وعندما قهرهم، قال لهم: أعجزتم أن يعمل كلّ واحد منكم بيتاً عند الحاجة إليه على القافية التي يريد؟ فقالوا له: فافعل أنت، فجعل كلّما أنشد واحد منهم بيتاً أجابه من نظمه على قافيته حتى قطعهم كلّهم، فعجبوا منه وانصرفوا».

التزود بعلوم الحكمة
ويعرّج الكاتب على نقاط مهمّة من حياة المعري، ومنها فاجعته بموت والده، وعمره 14 عاماً، لينتقل بعدها إلى حلب، فدرس أصول الدين، والسنّة النبويّة، ودرس ديوان المتنبي، وفلسفة الفارابي، ثم رحل إلى أنطاكية، وفيها اطلع على فلسفة الإغريق، ثم اتجه إلى اللاذقية ليطلع على أمّهات الكتب فيها، وبعدها طرابس، ثم يعود إلى معرّة النعمان من جديد، ويعيش فيها كريم النفس راضياً بميراثٍ بسيط عن والده يدرّ عليه مبلغاً زهيداً من المال، اقتنع به ليستمرّ في نظم الشعر، وتعلّم الحكمة، دون التذلل لأي شخصٍ كان، ولا الارتزاق في نظم الشعر من أحد.

رهين المحبسين رهين ثلاثة
وبعد مكوثه في المعرّة لوقت ليس بالقليل أراد زيارة بغداد الحاضرة العربيّة والإسلاميّة، فقصدها، وهناك توافدت أهالي بغداد للترحاب به، كما نهل من علمها ومكتباتها المزيد، إلى يوم قرار عودته بسبب مرض والدته، فأحبّ وداعها قبل مفارقتها للحياة، إلا أنه لم يوفق في ذلك، فماتت، ودُفنت، وهو في طريق السفر إليها، ومن شعره الذي تحسر به على فقدانها:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسم الخبيث
ومع أنه ذكر السجن الثالث، فقد بقي يلقب نفسه «رهين المحبسين» لأنه يعد السجن الثالث مشتركاً بين البشر جميعاً.

في الفلسفة والتجارب الإنسانية
حمل الكتاب الكثير من المواضيع الشعريّة، التي قال في صلبها المعري، والتي اشتهرت في عالم الأدب ونفيسه، ومنها، العناوين التالية: أرواحنا كالرّاح، الملوك والمهدي المنتظر، ليس الحجّ فرضاً، لا تهذيب في البريّة، لصوص الأماني، كلّ الجسوم إلى التراب، الشكّ في اليقين، ندم النفس، آفة القول، وغيرها من المواضيع الأخرى. وما يلاحظ في مواضيع القصائد التي قرضها المعري؛ أنها تدور في مواضيع عميقة ذات صبغة فلسفيّة، تستخلص الحكمة من الحياة، وتصل إلى نتائج التجارب الإنسانية. وتهمّ الإنسان الفرد في معظم مراحل تطوّره، وقد اخترنا من منظومه ذلك مايلي:
تُكرم أوصال الفتى، بعد موته، وهنّ، إذا طال الزمان، هباءُ
وأرواحنا كالرّاح، إن طال حبسها، فلا بدّ يوماً أن تكون سباءُ
يعيّرنا، لفظ المعرّة أنها من العرّ، قومٌ، في العلا، غرباءُ
فإنّ إباء الليث، ما حلّ أنفه، بأن محلات الليوث إباءُ
ضراباً، يطير الفرخ عن وكر أمّه ويترك درع المرءِ، وهي قباءُ

خطوة ناجحة
وقد تكون فكرة وضع المعرّي في مسيرة حياته المعقدة، ضمن سلسلة كتاب الجيب مغامرة من الكاتب الذي اختار وقدّم للكتاب، فحياة مثل هذا الأديب، والفيلسوف، والحكيم، والشاعر، تحتاج لأبحاث وأبحاث، إلا أنها مغامرة ناجحة في بثّ المعلومة، وتبسيطها، وتقديمها، بطريقة سلسة، وجميلة، تقرّب القارئ من عالم المعرفة، والثقافة، وبقي أنّ نذكر بأن سلسلة كتاب الجيب من إصدارات اتحاد الكتاب العرب ويتمّ توزيعه مجاناً مع مجلة الموقف الأدبي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن