ثقافة وفن

بيت المونة.. ما يعده السوري لتجاوز الزمن… براعة المرأة السورية جعلتها قادرة على تحويل الأزمات إلى أيام عادية

| منير كيال

حرصت سيدة البيت على توفير ما لذ وما طاب من أطايب المآكل بما يسيل له اللعاب وتتوق النفس إلى تناوله، ذلك أن سيدة البيت بدمشق كانت على نحو من العناية والمتابعة بل الاهتمام لحظة بلحظة بما تقدمه من مآكل للأسرة.
وقد تميزت هذه السيدة بتقديم مآكل ما زال الكثير منها بالبال، وخاصة بعدما طلعت علينا الأيام من مآكل تكاد لا ترتبط مع مآكل أيام زمان إلا بالاسم، لكثرة ما طلعت وما تطلع علينا وسائل الإعلام المرئية والمقروءة من مآكل كان لها التأثير الكبير في أذواق جيل هذه الأيام، حتى أصبحنا نلحظ أن الكثير من سيدات هذه الأيام يكاد يجهل ما كان عليه أسلافنا من المآكل.

وإذا كانت النار تنضج أي طعام، فإن النكهة قد لا تتأتى على يد أي كان، فالأمر أكثر من خضار أو بقول أو ثمار تقشر وتقطع ثم توضع على النار وحسب وإنما هنالك ما يُعرف بالنفس، فعندما يقولون إن هذه السيدة أو تلك نفسها طيب بما تعد من أطعمة، فإن هذا دلالة على تلك العناية والمتابعة والملاحظة المستمرة لما تقوم به هذه السيدة من طهي لتلك الأطعمة وذلك لما كانت عليه هذه السيدة من التعايش مع منتجات البيئة المحلية من خضار وبقول وثمار وما كانت عليه من توفير لمؤونة البيت على مدى أيام الحول، وفي هذا الإطار كان للنملية وما رافقها مما يُعرف بالكبك والمكبة، الدور الأول في جعل حواضر البيت من جبن وزيتون ومكدوس ومربى.. في مأمن من الحشرات كالبعوض والزواحف بل أيضاً القطط، مما قد تتعرض له حواضر البيت هذه، ومن جهة أخرى، فقد كانت سيدة البيت شديدة الحرص، لبذل كل الجهد لتوفير طعام الأسرة بإطار من العناية الفائقة، حتى إنها تكون ساكنة بالمطبخ.

الزواج والمعدة
وكانت الأم توصي ابنتها لدى زفها إلى عروسها، أن تُعنى عناية فائقة بما يدخل إلى معدة زوجها، ذلك أن الطعام هو الطريق إلى قلب الرجل، وهذا الطعام بالنسبة إليه متعة قبل أن يكون غذاء… كما توصي الأم ابنتها أن تحرص بألا تقع عين زوجها على ما لا يسره وما لا يغبطه، وكذلك موضع رأسه عند نومه وبالتالي ما يشم بأنفه لما في ذلك من حياة زوجية هانئة تجعل الزوج يجد في بيته الواحة التي يركن إليها بعد يوم شاق من السعي وراء رزقه.
وكانت الواحدة من سيدات تلك الأيام مثل الزبدية الصيني، من أين ترن عليها ترن فهي بارعة بالنظافة والأطافة والترتيب فضلاً عن كل ما يتصل بإعداد الطعام، بلا إسراف ولا تقتير فلكل شيء أواتيله (متطلباته) كما يقولون، وجعل المطبخ الدمشقي حافلاً بمآكل من أمتع وألذ الأطعمة بما تقدمه الأرض من خيرات محكومة بأحوال الطقس والبيئة التي تلعب الدور الحاسم بانتاج المحاصيل اللازمة لإعداد الأطعمة، وبالتالي فإن ذلك قد جعل على سيدة البيت توفير ما تنتجه الأرض في فصل الشتاء إلى فصل الصيف وكذلك العكس، وبالتالي فإن ذلك يمكن من إعداد الطعام على مدى الحول تبعة وعبئاً كبيراً على عاتق سيدة البيت التي تصدت لهذا الأمر بصبر ومجالدة وقناعة، فلم تأل جهداً لتوفير ما يلزم الأسرة من الطعام على مدى الحولة، وخاصة إن استجرار متطلبات الطعام من البقالية كان أمراً غير مرغوب فيه أيام زمان لما في ذلك من مساس بمكانة الأسرة ما يدل على سوء حال الأسرة المعيشي، لأن الأسرة التي لا يتوافر لديها المؤونة من قمح وعدس وبرغل وطحين.. وغير ذلك مما كان يحفظ أو يدخر بالكوارة أو الكندوش إنما هي أسرة في ضائقة وكانت رؤية المرء يحمل أرغفة الخبز المشتراة من الفرن إنما هو دليل على حالة من الفقر لا تسمح لأسرته القيام بعجن الطحين اللازم للخبز وقد قالوا في ذلك الخبز اللين فقر مبين.

الكوارة والمؤونة
وإذا كانت الكوارة أو الكندوش، لادخار أو حفظ مؤنة الأسرة من متطلبات الماضي، فقد حل مكانها ما يُعرف ببيت المونة، وهو المكان الذي تدخر به الأسرة مؤونتها ضمن خواب أو قطرميزات، ومن ذلك الزيتون بأنواعه والجبن والمكدوس واللبن المصفى (اللبنة) والمربيات.. وقبل أن يتوافر للأسرة البراد المنزلي كان للأسرة ما يعرف بالنملية. وهذه النملية أشبه بخزانة فيها رفوف وجدرانها الأمامية والجانبية من أوسط النملية إلى أعلاها مفتوحة على منخل يسمح بالتهوية، ويحول من دون دخول الحشرات إلى النملية، وقد كانوا يضعون بهذه النملية مطربانات (قطرميزات) تحوي موجودات بيت المونة، لتكون بمتناول اليد، وبعيداً عن المؤونة الأساسية المحفوظة بالقطرميزات الأكبر في بيت المونة، وهكذا نجد بالنملية الزيتون بأنواعه من معطون (عيطون) ومجرح ومفقش ومكلس، ما كان منه بالملح أو الزيت والحمض.. بالإضافة إلى أشكال الجبن واللبن المصفى (اللبنة) والمكدوس والزيت والزعتر.
وهم يسكبون من مطربانات النملية لتناول طعام الإفطار أو العشاء في صحون، وبعد الانتهاء من الطعام يعيدون ما قد يتبقى من الطعام بالصحون إلى المطربانات الخاصة بكل منها، أما ما يكون قد تبقى من الزعتر أو أجزاء المكدوس فإنهم يبقونها بتلك الصحون للوجبة التالية وتجدر الملاحظة أن سيدة البيت كانت تحرص كل الحرص بألا تمتد يد غير طاهرة إلى تلك المطربانات التي في النملية أو بقطرميزات المونة ببيت المونة، توقياً لما في المطربانات والقطرميزات من الفساد، فضلاً عن ذلك فقد كانوا يحفظون ما قد يتبقى من الطبخ إلى اليوم التالي على ما يُعرف بالكبك أو تحت المكبة، والكبك أشبه بصينية واسعة يزيد قطرها عن المتر قليلاً، لكن أرضية هذا الكبك عبارة عن عوارض معدنية متعامدة أو متقاطعة بحيث تترك فراغات بين هذه العوارض.
ويتدلى الكبك إلى أرض الديار (الباحة) بحبل أو مرس مربوط بدرابزين المشرقة المطلة على أرض الديار بحيث يمكن إنزال ذلك الكبك لوضع الطعام عليه ثم رفعه وبذلك يكون الطعام بمأمن وفي وضع مهوى رطب يحول من دون فساد الأطعمة التي عليه وبالتالي فإن الطعام بمأمن من الهرر أن تنال منه.
أما المكبة، فهي نوع من السلال فتحتها واسعة تُطب فوق المأكولات المطبوخة لتكون بمأمن من الهرر أو نحو ذلك.
محاصيل وتنوع

وفي جميع الأحوال يمكن القول بتنوع مآكل المحاصيل الزراعية في طعام الدماشقة على مدار الحول، ولم يكن إعداد سيدة البيت الطعام لوجبة واحدة ليوم واحد وإنما قد تكون الطبخة للاستهلاك على مدى يومين أو ثلاثة أيام وكانت وسائلهم البسيطة التي أتينا على ذكرها من النملية والمكبة والكبك كافية لحفظ ما يبقى لليوم التالي قبل أن تعرف البرادات بالاستخدامات المنزلية كما أنهم يعرفون طعمه فهم في ما يتناولون من طعام يجدون بما يتناولون متعة ولذة، فالطعام عندهم ليس مجرد حشو مصران، فالنفس وما تشتهي والقلب وما يعشق، وفي قول المثل الشعبي:
«البس ما يليق بين الناس وكل ما تشتهي نفسك».
فقد يكون تناول بضع حبات من الزيتون مع قليل من اللبن المصفى (اللبنة) أو الجبن مع العافية أشهى من أي طعام آخر غني بالدسم.
وفي الختام، يمكن القول: إن سيدة البيت اعتمدت أساليب لتوفير ما تنتجه الأرض من محاصيل الربيع والصيف وأحياناً الخريف إلى فصل الشتاء، ومن هذه الأساليب ما كان بأسلوب التجفيف (التيبيس) وما كان بأسلوب الشرش (بالملح والماء) وما كان بأسلوب القلي أو الغلي، لتقديم اللقمة الطيبة على مدار الحول.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن