ثقافة وفن

أيمن زيدان في قلب المشهد

| إسماعيل مروة

كان أيمن زيدان مدهشاً دوماً في تفوقه على أقرانه، وفي تقديمه للدراما السورية بوجهها المشرق الجميل، ولكنه اليوم في «أمينة» تفوق على الإدهاش، ولم يكتف المتابع بأن يدهش بصورة ولغة سينمائية عالية، بل أجبر فيلم أمينة الذي حمل رأي أيمن ورؤيته وروحه ورائحته، أن يدخل في قلب المشهد، ليكون الشهيد الحي، ولتصبح أمينة أمه، والفتاة أخته، وقاسم ملحو خصمه، وليلعن الحرب وآثارها التي ترتبت عنها في هتك النسيج الاجتماعي والقيمي المجتمعي.
أمينة وأيمن زيدان محاولة محو للحرب وآثارها، وللدمار للوصول إلى سورية النبيلة والجميلة التي تجتمع حول سرير شهيد مات قبل أن ينتهك شرفه وجسده، والتي جاء سوري من أقصى مكان ليدافع عن شرف المقاتل والشهيد، والتي كانت الأم قامة من كبرياء وبطولة ودمع تحضن الجميع، تصوّب الطريق، ومن ثم تتصبب عرقاً وهي تشق طريق الغد السوري لتمحو آثار الدمار الروحاني والحياتي، وهي تربط الحبل إلى جبهة لم تعرف الانحناء، فكانت أمينة الاسم والصفة، أمينة التي لم تخن الأمانة لحظة، ولم تعرف غير الحب.
كثيرة هي الأعمال التي كتبت عن الحرب في سورية، وقليلة التي دخلت في الوجدان السوري دون شعارات، ودون ادعاءات، ودون عبارات إنشائية، وفيلم أمينة من هذه القلة، التي صورت عمق ما جرى في سورية، ودون أن تدور الكاميرا في المواقع، قدمت لنا الحب في أزهر صوره دون أن تتحدث عن اللحمة الوطنية، وربطتنا بالأرض والبيدر والقمح والتبن دون أن تقول لنا أحبوا أرضكم.
شاقة هي مهمة أيمن زيدان في العمل، وقد حدثني مطولاً عنه فيما مضى، وبعد كل جملة كان يقول: بكرا بتشوفه، لذلك حرصت على أن أراه، وكم كانت سهرة ممتعة مع أمينة، وأحار وأنا أتابع مدخله، وأتخيل الإنسان السوري لوح الدارس في البيدر، والمسامير التي تدخل جسده، وكأنني بيسوع الذي يصلب وهو يؤدي رسالته، من الناحية الفكرية أمينة أيمن زيدان يمثل قمة النضج الفكري، والوعي الحقيقي لما جرى في سورية ويجري دون أي انسياق وراء جهة أو طائفة أو مجموعة، ودون أي مبالغة، فكشف مواطن الثآليل وأراد لها أن تخرج من الجسد، لكن الحرب لم تنته ونهاية أمينة بقيت على وعد من الثآليل أن تعود للظهور من جديد إن أتيح لها أن تخرج.. الجار في الداخل كان منتهكاً، ونال ما لم تنله القذيفة، والأخ الشقيق كان أكبر من المؤامرة واستطاع أن يسلب نبضات قلب الأخت مع استلابه لأرضها كرمى لأكوام من الحجارة والحصى التي يعمل بها، فكان وجهه بلا معالم، خاصة إذا استثنينا الحقد واللؤم.. لولا هذا التهتك ما استطاعت مؤامرة أن تمرّ، وما تمكن شهواني من الاعتداء على بيت أخته محاولاً فضحه وتمريغ سمعته، وقد أجاد أيمن في عدم قراءة ردود أفعال الأخ تجاه ما يجري مع بيت أخته، وفي كل المراحل، والمشاهد الثلاثة التي اجتمع فيها الأخ مع أخته أو الخال مع ابنة أخته تدور حول ضرورة بيع الأرض (البيدر) وبصورة مدروسة قدم أيمن الأرض البيدر مصدر القمح والغذاء، ولم تكن جرداء، وبالمقابل أرض الحصى والآليات والإسمنت، فالحياة يستبيحها الأخ من أجل الجماد، وكان له ما أراد.. وبأرخص الأسعار!
أما من الناحية الفنية والمشهدية، فقد رأيت بخبرتي المتواضعة مشهدية مختلفة، رأيت سينما وصورة، ورأيت ممثلين حقيقيين عجنوا بأيمن ورؤيته، وكان همهم العمل، ولم تخطئ الكبيرة نادين خوري حين قالت عن دورها: إنه من الأعمال التي لا تتكرر في حياة الفنان.. نادين قدمت دور حياتها فكانت أمينة على الكلمة والتعبير والدمع والأمومة، وفي كل شيء، وتبقى مشاهدها مبتسمة ودامعة علامة الأداء التمثيلي الأبهى والأرقى في حياة كلها أداء راق، لكنه في أمينة ومع أيمن زيدان كان أداء احترافياً عالياً ومؤثراً برسالته وأدواته، بكلماته وصمته، فشكراً لنادين التي كانت سورية الحاضنة لأبنائها وللسوريين فهي الحنونة على ابنها البيولوجي، وهي الحاضنة للحب السوري، وقد دفعت ابنتها للحفاظ على حبها والتمسك به، وتحتمل قول حاقد (مو منّا) فقد كانت فكرة الأمومة عندها لسورية، لا لأولادها، ولا لبيئتها، وها هي تنعش سورية أخرى، وتدفع فيها الأمل لتقوم وتتحرك، وها هو أيمن زيدان يترك الكرسي فارغاً، وفي الهواء الطلق ليكون لكل سوري يحتاجه، ولم يؤطره ضمن جدران غرفة تبقيه حبيساً بأنانية الانتماء والجغرافية! قاسم، رامز، حازم، نجاح، لينا.. كل الذين عملوا قدموا أدواراً عذبة ومؤثرة في حضورها ورسالتها، حتى الطبيعة الآسرة لم يلجأ أيمن زيدان للتغزل بها، فيضيع في تفاصيل جمالية، بل قام بتوظيفها كما يجب، وكانت في إطار المشهدية المتكاملة التي لا تسرق من سورية ألمها وجرحها.
يبدأ الفيلم باللوح والمسمار، وينتهي بالبيدر واللوح، وها هو لوح البيدر يرسم خطاً للقمح في الرماد، رماد الأخ، رماد الطمع، ليقول بأن الخير قادم إلى سورية، ولابد أن يكون خيراً لأن الحياة تبدأ غداً، والأمومة وجبهتها هي الحامل الحقيقي للحياة القادمة، وسورية تكنس الرماد والدمار لتسمح للقمح أن يملأ البيدر.
أيمن زيدان صاغ أمينة من روحه وخبرته وحياته وآرائه، أراد فيلماً للتاريخ السوري، ولم يرد فيلماً إعلامياً إعلانياً، من هنا لا نستغرب الاحتفاء الكبير الذي لقيه في المهرجانات، أراد سينما ولم يرد التعبير عن فكرة قطيعية، وأراد سورية، ولم يرد جزءاً منها، انحاز إلى الصدق في الناس بغض النظر، وأدان التهتك المجتمعي، ودس دور الفن والسينما تحديداً في بث الوعي والقدرة على التغيير اجتماعياً وفكرياً وثقافياً.
يمكن للمتابع أن يقول: فوجئت بما شاهدت في أمينة.
لكن من يعرف السوري أيمن زيدان يجد ذلك التقاطع الحاد بين ما يكتب، وما أدى، وما قدم للمسرح خلال الحرب، وما بين أمينة، وبكل اطمئنان أقول: إن أمينة هو هوية أيمن زيدان، وهو رأيه، وهو فكره، وهو فنه الذي سينهمر ليكون تشريحاً مؤلماً لمجتمع توجهت إليه المؤامرات ففتح لها ذراعيه واستقبلها، وكان أضعف من المواجهة، وما على السينما والفكر والفن إلا العمل على التشريح لبناء مجتمع مختلف في تفاصيله ورؤاه.
حكاية بسيطة وعميقة، بين سطورها حكايات
رأينا القتل والدمار وساحات الحرب، وشممنا رائحتها دون أن يؤلمنا أيمن زيدان برؤيتها، قدم الساحة كاملة برموز طاغية هي من صنعه وحبكته، وبعبارات إيحائية، أقل ما يقال فيها إنها منجم حقيقي للإبداع الذي زنره أيمن بموهبته العالية.. وقدراته الحياتية والإنسانية النادرة الوجود.
صديقي أبا حازم.. أنت إنسان خاص، ولو لم تكن إنساناً من النسق الأعلى لم تستطع أن تجلس في برج إنسانيتك لتقول: هذا هو الإنسان، هذه هي الأم.. هذه هي الحياة ولا مكان للحرب والقتل والدمار، فشكراً لخصوصية إنسانيتك المبعثرة في فوضى حقيبتك وحروفك وشعرات لحيتك، وغمرة احتضانك إبداعاً وحياة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن