ثقافة وفن

إدغار آلان بو… الأب الروحي لأدب الرعب

 ديالا غنطوس : 

«الذي تهوي عليه الكوارث بسرعة» لقب أطلقه على نفسه إدغار آلان بو، ومن منا لا يعرف ذلك العظيم، مؤسس الشعر الحديث ورائد أدب الرعب في العالم، وفي الحقيقة فإن قراءة السيرة الذاتية لذلك الكاتب المبدع لا توحي أبداً بأن صاحبها سيكون ذا شان عظيم مستقبلاً، إذ تحوي من المصائب ما يجعل المرء يقع فريسة الكآبة والسقوط النفسي والجسدي والأخلاقي، لكن إدغار لم يستسلم لما وهبته الحياة من آلام، بل نذر نفسه للكتابة والإبداع، في سبيل الخروج من دائرة صراع المصائر التي تكالبت عليه من كل حدب وصوب، فاستطاع خلال سني عمره القصيرة التي لم تتجاوز الأربعين عاماً أن يقدم إنتاجاً أدبياً ضخماً يعجز عنه مديدو الأعمار من الكتاب، فكم شخص منا يقدر على النهوض بعد السقوط؟ ومن منا يستطيع بلوغ النجاح والشهرة إذا ما ولد في القعر؟

وسط عائلة فنية مغمورة ولد الكاتب والشاعر الأميركي الشهير «إدغار آلان بو» في بوسطن عام 1809، وترعرع بين والدين ممثلين من الدرجة الثالثة، يعملان لتوفير الرزق لثلاثة أفواه جائعة، طغى البؤس على حياته مذ طفولته، حيث هجر الأب ديفيد بو عائلته عام 1810 تاركاً مهمة كبيرة على عاتق زوجه إليزابيث هوبكنز، وكان إدغار لم يتم العامين من عمره حينها، فقررت الأم الانتقال إلى «ريتشموند» في ولاية فيرجينيا حاملة معها أصغر طفليها إدغار وروزالي، وتاركة الابن الأكبر ويليام لدى أقاربه في «بالتيمور» لتبدأ هي رحلة الكفاح لإيجاد قوت طفليها، في حين السل ينهش صدرها كل يوم أكثر وأكثر، إلا أنها توفيت عندما بلغ إدغار العامين من عمره، فاكتملت مأساته بموت أخيه الشاب ويليام بينما أصاب الجنون أخته روزالي.
قامت زوج التاجر المعروف جون آلان السيدة «فرانسيس آلان» بأخذ الطفل إدغار للعيش في منزلها عام 1811 واعتبرت أنه تعويض لها عن الأطفال الذين لم ترزق بهم بسبب العقم، لم يكن ذلك تبنياً رسمياً نظراً للرفض القاطع الذي أبداه الزوج جون آلان بسبب السمعة غير المستحبة لمهنة التمثيل التي زاولها والدا إدغار، لكن ذلك لم يمنع إدغار من اتخاذ اسم آلان كاسم أوسط له، وببلوغه الخامسة من عمره انتقل للعيش في إنكلترا التي قضى فيها خمس سنوات برفقة عائلته الجديدة، وبدأ بإنشاد الشعر الإنكليزي وارتاد مدرسة «مانور» عام 1815 والتي كانت عبارة عن قصر قديم متهاوٍ، وفي سن الحادية عشرة عاد مع عائلته إلى مدينة ريتشموند التي لم يشعر بالارتياح لأجوائها الأرستقراطية الغالبة، وبحلول عام 1926 التحق بجامعة فيرجينيا، وأدمن الخمر ولعب القمار، وخصوصاً إثر صدمته بخطوبة حبيبته الأولى «إلميرا رويستر» لشاب آخر اختارته عائلتها التي لم ترض عن علاقتها بإدغار «المتبنى»، وتبعاً لانحرافه تراكمت عليه الديون التي وصلت قيمتها إلى ألفي دولار وقتها، ومع رفض سدادها من والده بالتبني تم طرده من الجامعة وبات مفتقداً لأي رعاية، فرحل إلى بوسطن حيث أصدر مجموعته الشعرية الأولى «حلم داخل حلم» عام 1827، وأتبعها بمجموعته الشعرية الثانية «تيمورلنك» في بالتيمور، قبل أن يلتحق بأكاديمية ويست بوينت العسكرية التي تم طرده منها لاحقاً لتقصيره بأداء واجباته، وجاءت اللحظة القاصمة في حياته حين توفيت السيدة «فرانسيس آلان» عام 1829 التي كانت بمنزلة والدته وصديقته الوحيدة، وافتقد بغيابها شعوره بالانتماء لعائلته البديلة، فاختار الانتقال للعيش مع عمته «ماريا» الخياطة الفقيرة في بالتيمور، والتي احتوته وعطفت عليه ورعته مع ابنتها الصغيرة «فيرجينيا».
شرع إدغار بالعمل محرراً وناقداً لدى العديد من الصحف والمجلات الأدبية كان منها «برودواي جورنال» و«مراسل الجنوب الأدبي»، مسمياً نفسه «الشخص الذي تهوي عليه الكوارث بسرعة»، وعُرف بنقده الصريح فحقق شهرة لا بأس بها، ووصل إلى الاستقرار المادي عام 1836 فتزوج ابنة عمته الجميلة المراهقة فيرجينيا التي كانت تبلغ الثالثة عشرة من عمرها، ما أثار استهجان الكثير من المؤرخين والنقاد لاحقاً، لكن بعضهم برر له ذلك برغبته في التقرب أكثر من عمته التي تولَّت رعايته وإعالته، وبعد ذلك بعامين تمكن إدغار من نشر روايته الأولى باسم «حكاية آرثر غوردن بيم»، وفي عام 1840 انتقل إلى فيلادلفيا برفقة عائلته وعمل بالتحرير في مجلة «بيرتون جنتلمان» ثم تولى رئاسة تحرير مجلة غراهام»، وفي نفس العام قام بنشر أول مجموعة قصص رعب، ثم أتت روايته البوليسية «جريمة قتل في المشرحة» التي حققت انتشاراً واسعاً وتمت ترجمتها للفرنسية، وتلتها قصة «الحشرة الذهبية» عام 1843، بعد ذلك بعام عاد إدغار إلى نيويورك ونشر قصيدة «الغراب» التي أوصلته للشهرة بين جميع الأوساط الأدبية.
حصل إدغار بو على لقب مؤسس الشعر الحديث بقصائده الفريدة التي كان لها لون شعري مختلف عن باقي الشعراء في ذاك الزمن، كان أشهرها «إلى ساكن الجنان»، «الغراب»، «إلدورادو» و«آنابيل لي» وهي آخر قصائده، كما اتخذت كتابات إدغار نمطاً متميزاً وضع من خلاله قواعد أدب الرعب والقصص البوليسية، وعُرف بأنه أكثر المؤلفين تأثيراً في تاريخ روايات الرعب والتأمل، ومن أهم تلك القصص «سقوط بيت آشر»، «القلب المليء بالقصص»، «القط الأسود»، «الحشرة الذهبية»، «بضع كلمات مع مومياء»، «الليلة 1002 لشهرزاد»، «السقوط في الفوضى»، «مجموعة قصص أوغست دوبان»، «جريمة قتل في المشرحة»، «لغز ماري لوجيه» و«الانزلاق إلى الدوامة». وقام العديد من مخرجي السينما العالمية باقتباس الكثير من أفلامهم من قصص إدغار بو، حيث قام المخرج ألبرت روجيل بإخراج فيلم «القط الأسود» سنة 1941، وكذلك فيسينت برايس وروجر كورمان اللذان توليا إخراج النسخة الثانية من فيلم «سقوط بيت آشر» عام 1960، وفي عام 1968 اشترك ثلاثة من المخرجين الأوروبيين الكبار هم روجير فاديم ولويس ميلن وفيديريكو فيلليني بتحويل عدد من قصص إدغار بو إلى فيلم سينمائي، وقد حققت جميع تلك الأفلام نجاحاً كبيراً وانتشاراً عالمياً وحصدت أعلى الإيرادات.
لم تكتمل فرحة إدغار على صعيد الشهرة والنجاح، فباغت مرض السل زوجته وهي في سن التاسعة عشرة، ولم يتمكن الكاتب الصاعد من توفير المال الكافي لعلاجها من هذا المرض الفتاك، فسكنه اليأس والمعاناة وهو يراقب روحها وهي تبارح جسدها ببطء، إلى أن فارقت الحياة عام 1847 بعد صراع استمر خمس سنوات مع المرض، ولم يمتلك أياً من النقود حينها لتغطية نفقات دفنها، فساعده بذلك البعض من جيرانه، دفعته تلك المصيبة للإسراف في معاقرة الخمر وإدمانه، وبعد عامين من وفاة زوجته، في ليلة خريفية عام 1849 تم العثور على إدغار بو متسكعاً في شوارع بالتيمور مرتدياً ثياباً ليست له وهو مخمور يهذي في حالة حرجة، فقاموا بإسعافه إلى أحد المشافي القريبة لكن الموت كان أقرب، فتوفي بعد أربعة أيام من دخوله المستشفى وهو في سن الأربعين، واعترى وفاته الكثير من الغموض وخصوصاً بعد اختفاء جميع سجلاته الطبية من المستشفى الذي نقل إليه، بما في ذلك شهادة وفاته.
اختلف النقاد والأدباء والمؤرخون بشأن الأديب إدغار آلان بو وتباينت حوله مواقفهم، منهم من اعتبره ذا شأن عظيم كالشاعر الفرنسي شارل بودلير الذي تولى ترجمة جميع أعماله وخصّه في كتاباته، واعتبر آخرون أن كتاباته مبهمة يعتريها الغموض والفوضى، في حين تجاهل أدباء أميركيون كتاباته بشكل تام، إلا أن ما لا خلاف حوله هو قصة كفاح الأديب الشاب على الرغم من الحياة البائسة التي حظي بها، فأثبت أن الملمات لا تحط من عزيمة المرء بل تقويه وتزيده إصراراً على بلوغ أعلى درجات النجاح.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن