المجانين في نعيم!
| عصام داري
منذ يومين عثرت في الشارع على دفتر تتلاعب فيه الريح، ولمحت كلمات كتبت بالألوان على ورق أبيض، فتلفت حولي لأتأكد أن أحداً لا يراني، وبسرعة كبيرة انحنيت والتقطت الدفتر وخبأته على الفور في ملابسي وشعرت أنني لص يستولي على ممتلكات الناس!.
دفعني إلى ذلك حب الاطلاع والشغف بالقراءة، ومن عاداتي أنني لا أترك «لافتة» أو «آرمة» أو «شاخصة» وحتى (النعوات) التي تملأ الجدران إلا وأقرؤها، وأحياناً أقرأ الإعلانات المبوبة في الصحف.
الدفتر كان عبارة عن كتابات تشبه اليوميات أو المذكرات، كتبت بخط مقروء لا هو جيد ولا هو سيئ، وبكل الألوان، كأن صاحبها أراد أن يعبر عن حالته النفسية من خلال الألوان.
على كل فقد وجدت في هذه الكتابات شيئاً طريفاً يستحق النشر، لأنه بمنزلة رسائل من مواطن يدعي الجنون، وله العذر في ذلك إذ يقول:
(منذ مدة شاهدت فيلماً بالأبيض والأسود عنوانه: «المجانين في نعيم» للكوميدي المصري إسماعيل ياسين، ورأيت فعلاً أن المجانين في نعيم، فهم يمارسون حياتهم بحرية مطلقة لا يسألهم أحد عما يفعلون، ولا هم مطالبون بالامتثال للأنظمة والقوانين، ولا يحاسبهم العسس إذا تفوهوا بما هو ممنوع على عامة الناس التحدث فيه، والجميل أنهم لا يدفعون آجاراً للبيوت في هذا الجحيم المستعر لأسعار وآجار البيوت، الذي لا يقدر عليه إلا كبار التجار واللصوص والفاسدون، والمجنون سيجد من يطعمه من دون أن يدفع قرشاً واحداً).
ثم قرأت صفحة مكتوبة باللون الأحمر، والأحمر يدل على الغضب، يقول صاحب الدفتر، أو المذكرات: «بدت لي فكرة الجنون جميلة فقررت الدخول في عالم الجنون، فقرأت الكثير من قصص الجنون ومنها القصة القصيرة «همس الجنون» للأديب المصري نجيب محفوظ، فذهبت من فوري وساعتي إلى الأسواق، وسألت عن أسعار البضائع بصوت عال، فكان الباعة يهمسون بالأسعار حيناً وبصوت مرتفع أحياناً أخرى، وأنا أشتمهم وأشتم اللحظة التي تزوج أبي وخلفني لأعيش فقيراً ومجنوناً، وكان الباعة يصرفونني عنهم، إما بالعنف الذي اعتادوه في تعاملهم مع الزبائن، وإما بشراء سكوني ببعض الفاكهة والخضر وغيرها من مستلزمات الإنسان كي يعيش عيشة قريبة من البشر وغير بعيدة عن الحيوانات!».
وهكذا صارت الأسواق تعرفني، كما أعرف الباعة واحداً واحداً فمن «يتحنن» عليّ ويعطيني «اللي فيه النصيب» أو ينال الذي لا يعطيني أو الذي ينهرني ما يستحق من شتائم بالمفرق والجملة، ومن مختلف العيارات!.
وهكذا كانت حياتي طوال سنوات، فاقتنعت أن المجانين في نعيم، وكنت أرغب في تعميم الفائدة على الجميع كما حدث في مسرحية توفيق الحكيم «نهر الجنون»، لكنني خشيت إن فعلت ذلك أن يفتضح أمري وأنال جزائي، فقررت أن أواصل تمثيل الجنون كي أعيش بسلام وأمان وأغني «كنت بزماني سلطان زماني»، وهذه وصفة سحرية لكل من يظن أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية صعبة ومتعبة.
عرضت الدفتر على أحد الأصدقاء المقربين فضحك حتى استلقى على ظهره قائلاً: فعلاً المجانين في نعيم فلماذا نتمسك بالعقل؟.