ثقافة وفن

أرواد.. لؤلؤة البحر.. زمردة طرطوس … تاريخ.. شاهد على أصالة السوريين

| المهندس علي المبيض

كنا قد بدأنا الحديث في المقالات السابقة عن القلاع والحصون كأحد المعالم الأثرية والتاريخية المهمة في سورية التي تعطي دلالات مهمة عن طبيعة وتكوين السوريين، حيث عرضنا لمحةً موجزةً عن قلعة حلب وقلعة دمشق ثم انتقلنا للحديث عن القلاع في محافظة اللاذقية فاستعرضنا قلعة صلاح الدين وقلعة المهالبة ثم قلعة بني قحطان وقلعة المينقة، وفي المقال السابق تحدثنا عن مدرج جبلة الأثري الذي يسميه البعض قلعة جبلة، وضمن الإطار نفسه نتوجه إلى محافظة طرطوس.
طرطوس هذه المدينة الوادعة الساحرة المتكئة على ساحل المتوسط، مدينة مأهولة منذ أقدم العصور شكلت جزءاً من وحدة حضارية بدأت مع التاريخ والأصح أن التاريخ بدأ معها، أطلق عليها الفينيقيون اسم أنترادوس لأنها تقابل جزيرة أرواد التي كان يطلق عليها اسم أرادوس وقد ذكر الجغرافي الشهير بطليموس اسم أنترادوس وسماها البيزنطيون طرطوس، ازدادت أهميتها بشكل كبير خلال الفترة الصليبية وأصبحت قاعدةً حربيةً مهمة وميناءً رئيسياً على ساحل المتوسط واستمر دورها محورياً في عدة حضارات متتالية تعاقبت على المنطقة.

فتحها العرب عام 637 م تعاقبت عليها عدة ممالك، فكانت تابعة للحمدانيين ثم الصليبيين وبني منقذ والسلاجقة والأيوبيين ثم عاد إليها الصليبيون عام 1102م، استعادها صلاح الدين الأيوبي من الصليبيين عام 1188 م، ثم قام بالسيطرة على برجها الرئيسي بعدما لاذت الحامية المدافعة عن المدينة بالفرار عبر سرداب سري يؤدي مباشرة إلى البحر ولا يزال الباب الذي يؤدي للسرداب معروفاً حتى اليوم في قاعدة البرج الرئيسي الكبير.
تبهرك المدينة القديمة في طرطوس بثراها الحضاري وتشدك إليها عندما تدقق بتفاصيلها وآثارها وأبنيتها التاريخية الموزعة على كامل المدينة كشاهد حي على عراقة المدينة وروعة موروثها الثقافي الغني بدءاً بالفينيقيين ومروراً بالآثار البيزنطية والإسلامية والصليبية.. وغيرها.
تزخر مدينة طرطوس بالعديد من المواقع الأثرية والكثير من المعالم التاريخية المهمة، فهي تضم مجموعة كبيرة ومهمة من القلاع معظمها لا يزال يحتفظ بجاذبيتها حتى وقتنا الحالي، وتعد من أهم وأفخم القلاع في العالم، كما يتوزع على مساحتها العديد من الأبراج والتلال الأثرية إضافة إلى المواقع والمدن التاريخية الأخرى.
وتضم طرطوس أيضاً معلمين أثريين مهمين من المعالم التاريخية السورية ألا وهما جزيرة أرواد وموقع عمريت اللذان يدلان على عراقة التاريخ السوري وأهمية دور سورية التاريخي خلال كل الحقب التاريخية.
تعتبر جزيرة أرواد الجزيرة المأهولة الوحيدة في الساحل السوري، حيث تنتشر على الساحل المحاذي لطرطوس إضافة لجزيرة أرواد خمس جزر أخرى غير مأهولة وهي جزر النمل والعباس وأبو علي والمخروط والمشار، وهي جزر صغيرة مهجورة وغير قابلة للسكن ولم يتم العثور فيها على أي أثر معماري، وبعض هذه الجزر يسكنه طيور النورس والبط وتتراوح مساحة هذه الجزر بين 500 إلى 1500م2.
تبعد جزيرة أرواد عن طرطوس نحو 4 كم تقريباً من الجهة الجنوبية الغربية للمدينة، تبلغ مساحتها نحو 200 ألف م2 تقريباً، شكلها بيضوي ويبلغ أقصى طول لها750 م، وأقصى عرض لها 450م.
يعود أصل جزيرة أرواد إلى الألف الثاني قبل الميلاد وقد أطلق اليونانيون عليها اسم أرادوس وحسب اللغة الفينيقية كان اسمها آراد أو أرفاد وتعني الملجأ، إذ شكلت جزيرة أرواد وخلال المراحل التاريخية المختلفة ملاذاً وملجأ يهرع إليه سكان الساحل السوري المقابل لها كلما كانت تندلع الحروب والفتن هناك كما أطلق عليها الرومان اسم مرفأ الأرجوان، ورد ذكر الجزيرة في ألواح مملكة إيبلا، كما ورد ذكرها في نقوش تل العمارنة وقد اشتهرت خلال تاريخها الطويل بأنها كانت واحدة من الممالك الفينيقية، بل مركزاً لمملكة فينيقية مهمة مزدهرة بسطت سيطرتها على ساحل البحر الأبيض المتوسط المجاور لها مدةً طويلةً وكان لها قوة ونفوذ كبيران، ويذكر تاريخ جزيرة أرواد أنه في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد وجدت مملكة قوية هي مملكة أرواد تتكون من جزيرة أرواد ومدينة عمريت وكانت تملك أسطولاً بحرياً ضخماً يجوب المتوسط على الشاطئ المقابل لها، ومرد ذلك هو أبناء الجزيرة أنفسهم الذين اهتموا بصناعة السفن وبرعوا بتقويتها، حيث يعمل أغلبهم في صيد السمك وصناعة القوارب الخشبية وشباك الصيد.
مرت الجزيرة بحالات مختلفة في تاريخها الطويل منذ الألف الثاني قبل الميلاد، وأجلي سكانها عنها قرابة عام خلال الحرب العالمية الأولى وقصفها الألمان عام 1917م بسبب تحويلها إلى قاعدة فرنسية عام 1915م.
رغم صغر مساحة جزيرة أرواد فإنها تضم عدداً من المعالم التاريخية منها معبد يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وبقايا ملعب رياضي كبير يعود إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد كان أبناء الجزيرة يقيمون عليه الاحتفالات والألعاب الرياضية الأولمبية القديمة، ومنهم أخذ اليونانيون تلك الفكرة وأطلقوا الألعاب الأولمبية، كما تحيط بالجزيرة بقايا سور قديم لحماية المدينة من العواصف البحرية ولصد الغزوات يعود للفترة الفينيقية، مبني من حجارة ضخمة يصل وزن بعضها إلى عشرين طناً ويبلغ ارتفاعه في بعض المقاطع عشرة أمتار تقريباً، إضافة للحمام الأثري والقلعة المركزية والقلعة الساحلية والمدفن اليوناني الموجود بجانب القلعة، وتعتبر القلعة المركزية من أهم المعالم التاريخية في الجزيرة وتشكل جزءاً مهماً من المخزون الثقافي والذاكرة الشعبية، تقع القلعة وسط الجزيرة وفي أعلى مكان فيها شيدت هذه القلعة على أنقاض حصن مراقبة فينيقي ويعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر أو الرابع عشر قبل الميلاد ورممت عدة مرات خلال العصور التاريخية المتلاحقة كالعصر الآشوري والفرعوني والبابلي والفارسي واليوناني كما قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف في الفترات الأخيرة بشكل متواصل بسلسلة أعمال ترميم متتابعة، جميع الأقسام الخارجية للبناء بما في ذلك أبراج القلعة الأربعة عربية وتعود إلى فترة الحروب الصليبية على حين يعود معظم الأقسام الداخلية لفترة الاحتلال العثماني التي أقيمت مكان المنشآت العربية، تميزت القلعة بسماكة جدرانها الحجرية التي تتجاوز المتر وذلك للضرورات الأمنية والدفاعية، ويوجد في بعض غرفها نوافذ مطلة ذات أقواس، كما تتميز بقلة زخارفها الفنية نظراً لوظيفة القلعة الدفاعية عدا قاعة العرش في الطابق العلوي، ويحيط بالقلعة سور حجري للحماية.
يتم الدخول للقلعة من درج جانبي صمم بهذا الشكل زيادةً في التحصين والحماية ولضرورات حربية وتتكون من ساحة مكشوفة يتوزع حولها عدة قاعات محصنة بعضها يحوي آبار ماء تتجمع فيها مياه الأمطار بواسطة مزاريب، تم توظيف هذه الغرف لأغراض مختلفة حسب المراحل الزمنية، وزاد في تحصينها وجود أربعة أبراج تتوزع على جدرانها الشرفات ومرامي النبال والمسننات الحجرية والمحاريق، تم فيما بعد تحويل البرج الجنوبي الغربي إلى منارة بحرية لإرشاد السفن.
ساهمت القلعة بشكل كبير في حماية أهالي الجزيرة خلال الحروب والغزوات التي جرت قديماً، وخلال الاحتلال العثماني استخدمت القلعة ثكنة عسكرية للجنود، وفي مرحلة الاحتلال الفرنسي استخدم المستعمر بعض غرفها معتقلاً سجن فيه زعماء المقاومة الوطنية، ولا تزال كتابات هؤلاء المناضلين التي كتبوها على جدران السجن ماثلة للعيان تتحدث عن حبهم للوطن واستعدادهم للتضحية في سبيله وتشوقهم وتطلعهم نحو استقلال سورية، تم تحويلها لاحقاً إلى متحف خاص يضم اللقى الأثرية التي تم العثور عليها خلال أعمال التنقيبات التي تقوم بها المديرية العامة للآثار والمتاحف في الجزيرة حيث يضم المتحف العديد من الجرار التي تم انتشالها من المراكب الغارقة في البحر أمام ساحل طرطوس وتعود للعصور الرومانية، كما يضم في أرجائه مجموعة من المرجان بأنواعه المختلفة الدماغي والشجري، ومجموعة جميلة من أصفاد فينوس وبعض التقاليد البحرية والإسفنج وتماثيل تم العثور عليها في الجزيرة والمناطق التابعة لها إضافة لذكريات النضال القومي السوري.
وفي واجهة الجزيرة تقع عمارة ضخمة هي القلعة الساحلية وتسمى أيضاً البرج الأيوبي وهو أول ما يشاهده الزائر لأرواد وهو في البحر عندما يقترب من الجزيرة.
يقع البرج الأيوبي في الجهة الشرقية لجزيرة أرواد، وهو يشرف مباشرة على مرفأ أرواد، يتم الدخول إليه من الباب الرئيسي في الواجهة الجنوبية، يعلوه الشعار الحربي اللوسياني، يتكون البرج الأيوبي من باحة مكشوفة في الطابق الأرضي يحيط بها أربع عشرة قاعة، إضافة إلى قاعة المدخل المسقوفة بشكل قبوات أو عقود متقاطعة ومبنية بالحجر الرملي، أما الطابق الأول فهو مربع الشكل ومزود في زاويته الشمالية الشرقية والجنوبية الغربية ببرجين دائريين يتم الوصول إليه من بهو الدخول بدرج حجري ضيق، وهو مؤلف من خمس قاعات.
نقطة مهمة أود أن أشير إليها أن سكان جزيرة أرواد وبيوتها المتراصة والمتراكبة فوق بعضها بشكل يوحي بالتعاضد والتكافل بكل حنان ودفء، يشكلان كنزاً تاريخياً حياً مهماً جداً لا يقل (وهذا رأيي الشخصي) أهمية عن قلعتها والمعالم التاريخية الأخرى التي أتينا على ذكرها، من واجبنا جميعاً مؤسسات رسمية وخاصة وجمعيات أهلية وأفراداً الحفاظ عليها وذلك من خلال عمل كل ما من شأنه المساهمة في رفع المستويات الخدمية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لسكان الجزيرة وإقامة مشاريع اقتصادية تنموية متكاملة، وتوظيف الجزيرة بشكل أمثل سياحياً وثقافياً وحماية البيئة الطبيعية للجزيرة من التلوث والحفاظ على الموارد الأثرية والتاريخية فيها من التدهور ومعالجة مخالفات البناء والحد من الزحف العشوائي للعمران.
وللحديث بقية…
معاون وزير الثقافة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن