ثقافة وفن

أضاعته وهو يبحث عنها!

| إسماعيل مروة

هذا الهاجس المرَضي عندنا لا أحد يدري مصدره! ربما كان موروثاً مع الجينات! ربما كان قادماً مع مرحلة الرضاع والتربية! نريد أن نستأثر بكل شيء، نحتفظ بكل ما تقع عليه أعيننا، من مال وجاه وجمال وعلم وو.. وأنّى يكون ذلك للإنسان مهما بلغ من المكانة والحصافة؟!
يقضي أحدنا عمره ليصل إلى مكانة وحب، ويعاهد نفسه إن وصل إلى هذا الأمر فإنه سيحافظ عليه برموش عينيه، وسيكون مخلصاً له في كل سكنة من سكناته، ويعطيه الناموس ما يشاء، وفجأة يرنو إلى أشياء أخرى لم يحظ بها، قد تكون أقل مما يملك هو، ربما تكون دون ما أعطاه الناموس، لكنه يهفو أكثر، ويسفح نفسه أكثر، ويتنازل عن ذاته حتى تضيع في ثنايا ما يهفو عليه.
يتنازل عما وصل إليه، وهو لا يريد أن يتنازل
يمسك ما هفا إليه وإن كان دون الأول
يوزع يديه وأصابعه، ونور عينيه بين ما كان وما هو كائن، ويعاود النظر إلى ما سيكون.. في اللحظة ذاتها يغني لما كان نادباً (شو بخاف إني ضيعك) وربما هرع إلى تبرئة ذاته، فألصق به كل الخطايا والدنايا والقبائح، وألفاظ الغدر والخيانة، ليتفرغ لما هو بين يديه، لما هو كائن، ويمارس حياته الطبيعية غير عابئ بما أحدثه في كينونة من كان أو ما كان!
يطلب، يعاهد، يراهن، وحين تصل عيناه إلى ما سيكون يمارس طقوسه ذاتها مع ما هو كائن، وعينه الراغبة الطامعة ترقب ما يمكن أن يكون وهو خارج حلمه..!
وينفضّ الأمر
يعود كل إلى دنياه
وما كان ممكناً يصبح غير ممكن، وما دلفت إليه العينان ذات لحظة وكانَ حاضراً، ضاع في الزحام، تبخّر كل شيء، صار رهناً بما آل إليه، وما رنا إليه المرء وسعى إليه تبخر ذات لحظة من زمن كان ولم يكن، ذات متعة عابرة لمال أو جسد أو عاطفة كاذبة ملونة بشهوة الاحتواء والتملك.
يكتشف عندها سر هاجسه
عندها وعندما يصبح عاجزاً يدرك معنى هاجسه المرَضي
يتمنى.. والأمنيات لا تعيد مفتقداً!
يرجو.. ومن أدركته الخيبة لا يؤمن بالرجا!
يطلب مغفرة.. ومن آمن لا يأخذ دور الإله!
يتغطرس.. وحين يعود إلى ذاته يدرك هشاشة!
يصنع تمثالاً لوطن
لحبيب
يتحول إلى «بجماليون»
يسحب سهم «كيوبيد»
يحاول أن يدرك ما أضاعته يداه
لا هو أدرك
ولا هو يدرك
ويقتله الحنين إلى ما أضاع!
لا شيء وبين يديه، يناجي ذاته، يريد أن يدرك ما تبقى
فإذا به على حواف الخيبة
الخيبة شيء مختلف
ضياع روح.. تشظي فكر
حدود لوطن غائب في المستحيل
عطش لماء عذب لا ندرك أبعاده هناك
حيث السراب.. ولا شيء غير السراب
هل نبحث عن سراب فيمن نحب وفيما نحب؟
هل نبحث عن ذواتنا؟
هل تتطابق الذات مع السراب؟
رحلة عبثية نقضيها
عبثية في مبتدى صرختها ومنتهى شهقة الرحيل
عبثية ولن أستغفر الكاهن أو الشيخ
ما بين الإنسان والرب أسمى وأكثر عظمة
ما بين عبث وعبث تتلاشى الأشياء، وتضيع الحدود والتفاصيل
وتر الكمان ينقطع في غمرة نشوة العزف
الوتر الجديد لا يحمل عذوبة الشجن، وغير قادر على استدرار دمعة
يموت المغني صاحب الصوت الشجي
تحترق أسطوانات السيمفونيات
يتهدم المسرح الكبير الذي يمثل حباً لإنسان ووطن..
يتلاشى كل شيء
إن لم تكن موجوداً فيما مضى.. وفيما هو كائن، وفيما سيكون تتحول الدنيا عبثاً بين يديك وما بين عبث وعبث تضيع أبهى اللحظات، ويظن الوطن أنه يحبه لأنه يشفق، ولا يدرك أنه أحبه وعبده لأنه لا يريد بديلاً منه، ولا يطمح أن يجد سواه، لذلك التصق فيه فكان نتيجة وريقات صفراء تنزل في الخريف لتصبح خميرة جسد العاشق، لتنبت وجهاً جميلاً وروحاً أجمل في الربيع، وتكتمل في صيف دمشق الباقية بعد فناء كل أوراق الخريف!
ويتهيأ لما هو كائن أنه استراحة، أو أن العاشق يحبه هكذا للا شيء، وقد يصل ذهنه إلى الشفقة، فهو يحب شفقة، والآخر يحبه شفقة، ولم يدر هذا أن قطرات المطر التشرينية في دمشق تنعش الروح، وتجعل الإنسان قادراً على احتواء كونٍ من حب وتماه!
احتوِ ما كان لك
ارتقِ إلى مرتبة ما كان
ابحث عن كينونتك فيه
لا تنتظر ما هو كائن، فقد كان لسابق
ولا ترتقب ما سيكون فقد كان.. وكان
وفي غمرة كان ويكون وسيكون يتلاشى ماء الوجه، يضيع كل شيء، ويبقى وحده مسنداً رأسه إلى غمامة تبرق وترعد ولا تحمل مطراً، ونافذة صدئة تشبه روحه تحجب عن رؤيته المتعبة ما هو كائن..
وقبل أن ينهض يرى الجموع في زواريب الحي تسير على هدى
ويأتي صوت فيروز تقول بشجن، تغني بألم، تجرّح صوتها لشفائه:
(يا حلو شو بخاف إني ضيعك)
فهل يمر في زواريب وطن لا يعرفه؟!
وهل يقابل ما كان ولا يلتفت إليه؟
انزرع فيمن تحب وفيما تحب
ولا تنظر إلى سيمفونية الضياع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن