«الأنبياء» الجدد
| زياد حيدر
عندما أُعلمت البشرية بأن الديانات السماوية قد توقفت منذ ما يزيد على ألف عام، تشبثت المجتمعات بكتبها المقدسة، وتفاسيرها، ودراساتها الداعمة، وبدأ تأرجح الدين، بين المذاهب، والملل، بين التفسيرات المختلفة، التي تبيح وتحلل، التي توضح والتي تضلل، بين دول وأخرى، وصارت الأديان، في الألف عام التي لحقت، رايات الحروب، وحججها المعلنة، فمات ملايين البشر انتصاراً لراية، ودفاعاً عن أخرى، وبقيت الأديان في أوقات السلم القليلة، حاجة الحكام، ومطيتهم على البشر، بحق وغير حق، وفقاً للكتاب المقدس أو من دونه، ظلت الأديان مفيدة لتقوية الأقوياء، وملاذاً لسكينة الضعفاء.
وبينما استقرت أديان في موضعها الطبيعي، مرشدة للبشر لا متحكمة برقابهم في بعض الحضارات، بقيت في حضارات أخرى المبتدأ والمنتهى، وتأرجحت في ذلك بين مجتمعات عرفت كيف تقوي مدنيتها على حساب التاريخ الغابر، وأخرى سلطت حكم التاريخ على حياتها.
لكن أي ديانات جديدة بكل حال لم تأتِ بعد خاتمة الديانات، واستقر البشر على يقين أنهم وحدهم في هذا الكون، وقد تركهم الخالق لتدبر أمورهم لحين قيام الساعة.
ورغم أن صوت الأديان وأنبيائها ظل يدوّي، في كل أصداء الأرض، بهذا الأثر أو ذاك، فإن ديانات أخرى غير ملحوظة تسللت لعقول الناس وقلوبهم وهم في غفلة، وأضاءت جانباً من الحياة سحرياً، لم يصدقوا وجوده سوى في الخيال، فصنعت معجزات ملموسة لا أدبية، فقصرت مسافات، وجمعت قلوباً، وحركت مجتمعات بهذا الاتجاه أو ذاك، وتحولت لمصالح يجتمع ويتفق عليها الجميع، لا يقوون من دونها، بل حتى تدخلت في تطبيقهم لدياناتهم السماوية، وساعدتهم على التمسك بها، وتنظيم إيمانهم بها.
صنع كل من بيل غيتس مؤسس (مايكروسوفت)، وجاك ما مؤسس (علي بابا)، وجيف بيزوس (أمازون) ومارك زوكبرغ (فيسبوك)، وستيف جوبز (أبل) دياناتهم الخاصة.
اخترعوها، ووضعوا قواعدها ونشروها بين الناس، كمن ينشر سلعة، ما إن تشتريها، حتى تتفتح قيم وتقاليد، يجري ترسيخها بالتطبيق العملي البطيء لكن المدروس، بطريقة مبسطة تناسب كل طبائع الشعوب، منغلقة كانت أم منفتحة، متجددة كانت أم منطوية، وحين كانت قيادات دول وحكومات، تحاصرها أو تضع العراقيل في وجهها، كانت تلك «الديانات» الخاصة تجد منافذها بطرقها الخاصة، تارة عبر التفاوض، وتارة أخرى عبر التسلل خلسة، وتارة بجهود ناشطيها والراغبين في اختراق سلطة الدولة.
شعوب كثيرة نظرت إليها نظرة شك، وعاملتها كغزو خارجي، ولكنها رغم شكوكها اعتنقتها وسهلت لها، وإن حاولت إعاقتها على مستوى السلطات، فقد تبين أن المعوقين من ضباط ومسؤولين ومشايخ هم من معتنقيها السريين، وخلفهم أولادهم وزوجاتهم وأقربائهم.
سيطرت هذه الديانات وانتصرت، ولم تحاول إزاحة غيرها أو معاداته، بل على العكس سخرت أدواتها لخدمة من يرغب من المتحمسين للماضي، والراغبين في البقاء فيه، فالمهم أن تنتشر هي في المساحات الواسعة الأخرى المدروسة للمستقبل، وليبق أنف من يرغب مغروساً في بقايا حضارته، مطلاً على أطلالها.
وبعد أن بلغوا ما بلغوا، فسطروا أرقاماً في قيمهم المالية، لم يسجلها تاريخ الكون من قبل، انتقل أنبياء العصر الجدد، للعمل الخيري، بعضهم للتعليم وبعضهم للتنمية، وبعضهم الآخر لعلاج الأمراض المستعصية والإنفاق على بحوث علاجها.
والمثير أن هؤلاء كلهم نشؤوا في أرض، لم يطأها نبي من قبل، ولا ولدت فيها ديانة سماوية.