نحو مسرح غنائي سوري
| الأب الياس زحلاوي
لمَ افتقر حتى اليوم، وطن ذاك المبدع، أبي خليل القباني، إلى مسرح غنائي؟
أويعقل ألا يكون، حتى اليوم من عام 2018، لوطن جبران خليل جبران، وعمر أبو ريشة، ومحمد الماغوط، ونزار قباني، مسرح غنائي؟
مع أن ما جرى في هذا الوطن الفريد، سورية، حتى في حدودها المقلّصة قسراً، منذ يوسف العظمة، وابراهيم هنانو، والسلطان باشا الأطرش، إلى هذه السنوات الثماني الأخيرة، وما جرى أيضاً في ما سلخ منها من دويلات، بدءاً من جنوبها المصلوب فلسطين، فالأردن، وخاصرتها لبنان، وعلى امتداد شمالها كله، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، من مظالم ومآسٍ، وبطولات وتضحيات، كفيل بتفجير حركة ثقافية عظيمة وغنية، يأتي المسرح الغنائي في طليعتها…
وحده لبنان عرف هذا النوع من الإبداع المتعدد والراقي، على يد أسماء مهمة، أبرزها الرحابنة الثلاثة العظام، منصور وعاصي وفيروز… لفترة ثم توقف!
السؤال مطروح، وهو ملحّ بقدر ما هو مؤلم…
وإنه ليحتاج إلى جواب، اليوم قبل الغد، على الرغم مما بنا في سورية، بل أقول بسبب ما بنا في سورية.
وإني لأرى أن مواجهته تتخذ شكلين متلازمين.
أولهما يتقصّى أسباب هذا الغياب، الحقيقية والقائمة حتى اليوم.
وثانيهما يقوم على البدء بمحاولات عملية، من شأنها أن ترسم شيئاً فشيئاً، معالمه المرجوة، عبر إخفاقات ستتكرّر حتماً، ونجاحات لا بد آتية.
وهذا بالذات ما حاولنا القيام به في جوقة الفرح، منذ عام 1993…
يومها وضعتُ نصّاً بعنوان «هنا… هنا… هنا…». كان النص نثراً شعرياً فحسب، لا محلّ فيه لأي حوار، بل المحل كله لرؤية تاريخية تمتد من جذور سورية الأولى إلى المواجهات المصيرية الراهنة… ولقد حاول أحد المخرجين التصدي له، فلم يفلح.
وجاء يوم من عام 2016، تبنّته فيه مجدداً قائدة الجوقة الجامعية، رجاء الأمير، واستعانت عليه بالمخرج عروة العربي، والفنانة ديمة قندلفت، فجاء على دار الأوبرا بدمشق، مسرحية غنائية واعدة، وصفتها لي شخصياً فور انتهاء العرض، السيدة كوليت الخوري، بأنها «عمل جميل، راقٍ، ومدهش».
وقامت محاولتنا الثانية في ميلاد عام 2017، إلا أننا كنا هذه المرة، قد اغتنينا بكاتب شاب، برهن عبر صفحات التواصل الاجتماعي، على حس إنساني، عميق ومؤثر، وعلى ملكة لغوية جذابة، أتاحت للحوار فسحة واسعة لديه. إنه ميشيل نصر الله، فكتب يومها محاولته المسرحية الأولى، وهي بعنوان «بروفا الميلاد». ولقد تعاون مع رجاء الأمير والمخرج نفسه، عروة العربي، تعاوناً فاعلاً، في أريحية ومودة، أفسحتا المجال رحباً، لعدد من الممثلين السوريين، من أجل تقديم عمل مسرحي غنائي ثانٍ، فاجأت به جوقة الفرح جمهور المشاهدين في دار الأوبر بدمشق.
إلا أن الصحافة آنذاك، كما في محاولتنا السابقة، «هنا… هنا… هنا…»، لم تُعِر هذا العمل أي اهتمام يذكر.
وجاءت محاولتنا الثالثة، والحالية، تستند إلى نص ثانٍ للمؤلف ذاته، بعنوان «درب الخبز»، وقد استوحاه من الأحداث المأساوية التي عصفت بسورية… وكان المخرج، بالطبع، هو صديقنا نفسه، عروة العربي.
إلا أننا هذه المرة، جاءتنا موهبتان جديدتان، أغنتا العمل إلى حدّ بعيد.
كان أولاهما لصاحبها الفنان المرنّم وسام عازر، مساهمة فاعلة، ولكن محدودة في العملين السابقين. وذلك أنه كان قد كتب بالاتفاق مع المؤلف والمخرج وقائدة الجوقة، كلمات الراوي في المسرحية، بأسلوب شعري يمسّ شغاف القلب، ويربط أزمنة العرض ربطاً محكماً، ولاسيّما أنّ من تلا هذه الحبكات، لم يكن سوى فنان عظيم، حمل همّ سورية منذ أكثر من خمسين عاما، عنيت به الأستاذ دريد لحام. كما أن وسام قام أيضاً بأداء دور رئيسي ومؤثر، تمثيلاً وغناء، طوال هذا العرض المسرحي الغنائي.
والموهبة الثانية، كانت في بروز موسيقي جديد ومبدع، هو عازف البيانو إياد جناوي، وهو مدرس في المعهد العالي للموسيقا، وعنصر قديم وفاعل في جوقة الفرح. وقد كان له في «درب الخبز»، أربع مساهمات موسيقية، استندت اثنتان منها إلى كلمات رقيقة من وضعه، جاءت متآلفة على نحو مدهش مع موسيقاها.
وأما الجوقة الجامعية، فقد أدت هذه المرة، بعناصرها السبعين، المتحركين على جانبي المنصة وصدرها، وأصواتها الفردية أحياناً، بين شاب وفتاة، أداء فاق كل التوقعات.
وإلى ذلك، كانت المنصة ذاتها مملوءة بنخبة من الممثلين السوريين المعروفين، بينهم طفلة مدهشة تدعى «شهد زلق»، وصبية متميزة من الجوقة، تدعى «غالية نونة»، وقد تحركوا كلهم في إيقاع وحركة مدهشين، عرفا أن يحققا انسجاماً موفقاً مع رقصات فرقة آرام الفتية، عبروا من خلالها عن مختلف الحالات النفسية التي طالت الناس، طوال هذه السنوات المرّة، من ألفة قديمة راسخة، وفرح فطري عارم، وحزن مفاجئ غاضب، واتهامات مرتجلة حادّة، واقتتال أهلي غبي، وهلوسة طاحنة، وهروب «مبرر» أو رخيص، وأخيراً من عودة للطمأنينة والمودة تغمران القلوب جميعاً، في تصميم وأمل ورسوخ في الأرض.
كل ذلك كانت ترافقه الفرقة الموسيقية بلمسات سحرية، كانت تحركها وتضبط تجلياتها قائدة الجوقة رجاء الأمير، القابعة مع عازفيها الستة عشر، في منخفض يلامس المنصة.
هل ترانا، في جوقة الفرح، وضعنا أقدامنا على الدرب الصحيح؟
كل مسيرة الجوقة، منذ إحدى وأربعين سنة، تجيبني بيقين الفرح الآتي.