التطبيع من السر إلى العلن
| رفعت البدوي
لم تعد المواقف الرافضة تطبيع العلاقة مع الكيان الصهيوني تجد الآذان المصغية، ولم يعد للشجب والاستنكار أي تأثير رادع لبعض الأنظمة العربية عن الشروع في فتح أبواب قصور ملوك وأمراء وسلاطين العرب لاستقبال عتاة الصهاينة استقبالاً رسمياً يعزف فيه نشيد الصهاينة ويرفع علم الكيان الإسرائيلي جنبا إلى جنب مع علم تلك الأنظمة العربية، ولم يعد للحق العربي في فلسطين ولا للموقف العربي أي وزن ذي قيمة كما لم يعد للانتماء والهوية ولا حتى للحياء مكان في مخزون ذاكرة التاريخ والضمير عند أولياء تلك الأنظمة.
إن ملوك ورؤساء وأمراء وسلاطين تلك الأنظمة الخليجية أمعنت ولم تزل وأوغلت ولم تزل، في إغماد خناجرها وسيوفها في صدر فلسطين وشعبها وباتت لا تفرق بين الحلال والحرام وبين التدنيس والطهارة، فسمحت بفتح أبواب المساجد احتفاءً باستقبال الصهيونية، ميراي ريغيف، وهي التي وصفت رفع أذان الصلاة بنباح الكلاب في وقت تستباح فيه دماء شبان وشابات فلسطين على أيدي الاحتلال الإسرائيلي الذي شرّع الترخيص باغتيال شبان فلسطين بدم بارد بينما حرارة استقبال القتلة ترتفع كل يوم في بلاط قصور التواطؤ العربي.
لا تستغربوا ولا تستهجنوا حصول التطبيع وتبادل الزيارات بين محتل مغتصب لفلسطين وبين متواطئ مأمور للجهة ذاتها والمنبع، فكلاهما يدين بالولاء للبريطاني الذي اكتفى بزرع رجل مخابرات بريطاني واحد يدعى، توماس لورانس، لقٌب بلورانس العرب استطاع خداع العرب وإيهامهم بتقديم المشورة والمساعدة على تحقيق التحرر من السلطنة العثمانية، فكان لبريطانيا الفضل في تقسيم الجزيرة العربية بين مملكة وإمارة وسلطنة وفي إيجاد تلك الأنظمة الخليجية بصفة حارس أمين على مصالح بريطانيا.
وبرجل بريطاني واحد أيضاً اسمه، آرثر بلفور، استطاعت بريطانيا في العام 1917 تقديم الوعد للحركة الصهيونية بإقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين بعد منح الشتات من اليهود قطعة من أرض فلسطين العربية وذلك بعد ضمان تواطؤ ملوك وأمراء ومشايخ وسلاطين جزيرة العرب، لتتحول تلك الأرض الممنوحة لليهود إلى مشروع بناء الدولة الموعودة لليهود والتي سميت بإسرائيل، وبذلك يتضح لنا أن تواطؤ ملوك ومشايخ وسلاطين أنظمة الخليج قد سمح بوجود إسرائيل تنفيذاً لأوامر بريطانيا صاحبة الفضل في إيجاد أنظمة الخليج العربي، وهكذا يمكننا فهم الشراكة التاريخية المزمنة بين إسرائيل وأنظمة الخليج بالولاء المزدوج لمصلحة جهة ومنبع واحد اسمه بريطانيا.
ومن هنا علينا إدراك أن التطبيع بين إسرائيل وأنظمة الخليج ليس وليد اليوم وليس بالأمر المستجد أو بالحدث الطارئ بل إن التطبيع بين تلك الأنظمة وإسرائيل قائم منذ موافقة حكام الجزيرة العربية بالتواطؤ لمصلحة شتات اليهود وتغاضيهم عن نشأة الكيان الصهيوني وتوسعته على حساب أرض فلسطين العربية.
إذا تعمقنا في تاريخ تواطؤ حكام الخليج على فلسطين، لوجدنا أولئك الحكام أول من بادر إلى خيانة الثورات الفلسطينية والسعي لإخماد الثورات العربية بدءاً من ثورة البراق الفلسطينية وثورة فلسطين الكبرى التي كادت تنتصر على الصهاينة لولا خيانة حكام الجزيرة العربية تنفيذاً لأوامر بريطانيا.
تُركت فلسطين وحيدة فريسة يتلذذ البريطاني بتقطيع أوصالها ليقدمها للحركة الصهيونية هدايا من حساب العرب بموافقة تلك الأنظمة الخليجية المؤتمرة بإمرة بريطانيا.
بقي التواطؤ والتواصل والتطبيع العربي مع إسرائيل مستتراً خوفاً من المد القومي الواعد للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، فانتدب الملك الأردني الراحل حسين بن عبد الله لمهمة نقل الرسائل وتبادل الود بين الصهاينة وحكام الخليج التي توجت بتآمر حكام الخليج على جمال عبد الناصر في حرب اليمن، وبعدها في ضرب المد القومي الذي تجلى بمشهد الوحدة بين مصر جمال عبد الناصر وسورية شكري القوتلي، وصولا إلى ذروة الخيانة الخليجية التي استهدفت حق العرب في فلسطين والمد القومي والتي أصابت جمال عبد الناصر بنكسة حرب 1967.
في حرب 1973 حققت مصر وسورية انتصاراً جزئياً على إسرائيل استعملت فيها لأول مره سلاح عقوبات النفط العربي على أميركا لكن سرعان ما جيّرت مفاعيل الانتصار العربي سياسياً لمصلحة إسرائيل بعد خيانة الرئيس المصري أنور السادات لسورية العروبة متوجاً خيانته باتفاق كامب ديفيد اللئيم بعد تشجيع من حكام الخليج.
حتى العام 1979 لم تكن إيران الشاه عدواً لأنظمة للخليج وحتى بعد انتصار ثورة الخميني الإيرانية، بيد أن إعلان الثورة في إيران التزامها القضية الفلسطينية وإغلاق السفارة الإسرائيلية واستبدال السفارة الفلسطينية بها في طهران، أثار حفيظة حكام الخليج، ما اعتبر تهديداً مباشراً لعروشهم لأن المطالبة بتحرير فلسطين يعتبر خروجاً عن أسس اتفاق بريطانيا مع حكام الخليج القاضي بمنعهم عن مناصرة فلسطين فعلياً والقضاء على كل حركات التحرر من الاحتلال الإسرائيلي كشرط للحفاظ على دول الخليج.
وبغرض ثني إيران ومنعها عن الالتزام بمناصرة ودعم القضية الفلسطينية أعطيت الأوامر الأميركية البريطانية لحكام الخليج النفطي بفتح خزائنهم لتمويل الرئيس العراقي صدام حسين ودفعه لشن حرب ضروس على إيران الثورة دامت ثمانية أعوام متواصلة حاصدة أرواح الملايين من الجانبين، وبعد إخفاق الحرب في تحقيق أهداف مشروع مساومة إيران على فلسطين تم توريط صدام باجتياح الكويت ليكون سبباً في التخلص منه ومن العراق القوي الذي تجرأ على قصف تل أبيب وحيفا والنقب بصواريخ سكود للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
إن تهديد حكام السعودية لأميركا بالتوجه نحو المصالحة مع إيران في حال نفذت إدارة ترامب رفع غطاء الحماية عن السعودية، لهو دليل واضح بأن ثمن الحماية الأميركية لأنظمة الخليج هو بمنعهم عن المطالبة بفلسطين وحقوق الفلسطينيين، وهو دليل آخر على أن الخلاف والعداء الخليجي لإيران هو ليس بسبب تهمة توسع النفوذ الإيراني في المنطقة بل إنه بسبب التزامها مناصرة القضية الفلسطينية واستمرار دعمها لحركات المقاومة ضد العدو الإسرائيلي.
ولأن فلسطين تسكن قلب ووجدان سورية العروبة ولأن سورية رفضت كل العروض التي قدمتها أنظمة الخليج للتخلي عن إيران وعن دعمها المتواصل لحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، كان لا بد من أنظمة الخليج من فتح خزائنهم ونفطهم لتمويل أبشع مؤامرة كونية تستهدف سورية العروبة وإطلاق شياطين الإرهاب عليها بهدف تدميرها وإسقاطها، بيد أن صمود سورية مكنها من قلب طاولة السحر على الساحر نفسه.
صحيح أننا نقدم الدماء ونحقق الانتصارات العسكرية في لبنان وسورية، وصحيح أن المقاومة اللبنانية وبدعم سوري إيراني، استطاعت إلحاق الهزيمة بالعدو الإسرائيلي في جنوب لبنان 2006 وتوجيه صفعة مدوية لمشروع أنظمة الخليج وأميركا، وصحيح أن سورية ومحور المقاومة استطاعا كسر فائض القوة الإسرائيلية ليحققا توازن الردع مع العدو الإسرائيلي، بيد أن كل تلك الإنجازات بقيت إنجازات عسكرية دون النجاح في استثمارها سياسياً للحؤول دون تنفيذ خطط أميركا وتنفيذ عقوباتها الاقتصادية على قطاعات النفط والمصارف لدى كل من آزر القضية الفلسطينية، وبقيت الانتصارات من دون القدرة على تشكيل رادع سياسي يحصن ساحة محور المقاومة لتمكينها من منع تنفيذ المشاريع الأميركية الخليجية الهادفة إلى التفريط بفلسطين، ما مكن إسرائيل من الانتقال من الحروب العسكرية إلى القوة السياسية، وتجيير نتائجها في الساحتين العربية والدولية لمصلحة زيادة نفوذها السياسي لتصبح أكثر فعالية ما أتاح لها فرصة تعبيد الطرق أمام التطبيع وتنفيذ صفقة القرن ولو على دفعات.
إن ظهور التطبيع الخليجي للعلن مرده يستند إلى حماية إسرائيلية علنية لأنظمة الخليج وإلى ارتباط الأمن السعودي بأمن إسرائيل وخاصة بعد اعتراف نتنياهو بالقول إن استقرار الأمن في السعودية هو أولوية لاستقرار امن إسرائيل ولو أدى إلى حماية المسؤولين عن جريمة اغتيال وتقطيع جمال خاشقجي.
إن انقسام أهل القضية الفلسطينية على أنفسهم وعلى قضيتهم شكل عاملاً سلبياً في إضعاف أي موقف سياسي داعم لفلسطين، كما أن عدم استثمار الانتصارات العسكرية بمشروع سياسي، عطل إمكانات وقف موجة التطبيع والحد من زخم مشروع تهويد القدس والتفريط بفلسطين.
نحن في خضم واقع يحتم علينا البحث جدياً عن سبل استثمار الانتصارات العسكرية وتوظيفها في تحالفات جديدة تنتج مشروعاً سياسياً اقتصادياً مقاوماً متكاملاً يمتلك وزناً إقليمياً ودولياً يعيد إلينا الثقة، وحتى لا نجعل من الانتصارات العسكرية حدثاً قابلاً للذوبان والاضمحلال فتذهب سدى مع مرور، الوقت وكي تبقي فلسطين حية في ضمير الأجيال العربية وصولاً إلى يوم تحريرها واستعادتها.