قضايا وآراء

الرايخ الألماني يواجه ترامب ونزوته الحمائية العدوانية

| د. قحطان السيوفي

تولت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل منصبها في عام 2005؛ عندما كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتوه قد تخرج قبل ذلك بعام من الجامعة، وكان دونالد ترامب لا يزال نجم تلفزيون الواقع ورجل عقارات.
تعيش ألمانيا عامها التاسع من التوسع الاقتصادي في عهد ميركل، لكن موجة الهجرة غير المنضبطة عام 2015، أحدثت تشنجات سياسية وتحديات كبرى ومتاعب داخلية أضعفت وهج ميركل أوروبياً، ناهيك عن نتائج الانتخابات الاتحادية المُخيبة في عام 2017، لكن ميركل لا تزال تتمتع بنفوذ، بصفتها القائد الأطول خدمة في أوروبا ورئيسة أكبر اقتصاد أوروبي، وحتى الآن لا يزال نهجها يشكل إطاراً للتساؤلات الكبرى في جدول أعمال الاتحاد الأوروبي وبدءاً من التفاوض على خروج بريطانيا من الاتحاد إلى إصلاح منطقة اليورو.
عندما أعلن الرئيس ترامب عن تحقيق حول تأثير واردات السيارات في الأمن القومي، ممهداً لفرض رسوم جمركية جديدة على السيارات الألمانية، قال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس «نكتة» لنظيره الأميركي مايك بومبيو: «إن فكرة أن سيارات «أودي» و«مرسيدس» و«بي إم دبليو» تعرّض الأمن القومي الأميركي للخطر، هي فكرة غير معقولة «بل على العكس من ذلك، السيارات الألمانية تجعل شوارع أميركا أكثر أماناً»، لكن بومبيو لم يضحك لأن النكتة لم تلق قبولاً حسناً لديه، كان التهديد بشأن السيارات هو الأحدث في سلسلة من الضربات واللكمات التي تحملتها ألمانيا، وقوبل رفض ترامب للاتفاق النووي الإيراني وقراره بنقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس، بالذعر في برلين، وقد يزداد الوضع سوءاً مع إخفاق الاتحاد الأوروبي في ضمان استثنائه من التعرفة الجمركية التي حددها ترامب للفولاذ والألومنيوم.
ألمانيا تلقت انتقادات ترامب أكثر من أي دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي، ابتداء من فائضها التجاري الضخم مع الولايات المتحدة وسياستها الليبرالية الخاصة باللاجئين وصولاً إلى الإنفاق الدفاعي الخاص بحلف الناتو.
وأقرت المستشارة ميركل بالتحدي الإستراتيجي الذي يطرحه ترامب في مؤتمر دافوس الاقتصادي العالمي، فدعت ألمانيا أوروبا إلى «وضع مصيرها بين يديهاً، ألمانيا ستلعب دورها، باعتبارها أقوى دولة في أوروبا وستدفع ثمن الدفاع والأمن»، وأضافت: «على أوروبا أن تتحمل مسؤولية الدفاع عن نفسها».
بدلاً من الاعتماد على الضمانات الأمنية لواشنطن تبنت ميركل نبرة يرى بعض النقاد أنها استرضائية وشبه تصالحية، إذا كان الغرض من ذلك تليين موقف ترامب، فإن الخطة قد فشلت وستكون الرسوم التي يمكن أن تنتج عن التحقيق في واردات السيارات التي أعلن عنها مؤلمة، خمسة مليارات يورو، أي 16 في الألف من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لمعهد إيفو للبحوث الاقتصادية.
بالمقابل حث بعضهم ميركل على وضع القفازات وقيادة هجوم مضاد أوروبي مشترك، لقد «حان الوقت لأوروبا للانضمام إلى المقاومة»، كما جاء في عنوان مقال افتتاحي في مجلة «دير شبيغل» وبالفعل شدد عدد من المسؤولين الألمان على الحاجة إلى الوحدة والتضامن في رد الاتحاد الأوروبي على ترامب ويجب التحدث بصوت واحد وزيادة التعاون الدفاعي والأمني، ولكن لا يزال رد برلين على اقتراحات ماكرون لإصلاح الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو فاتراً.
يعتقد بعض الخبراء أن ألمانيا يجب أن تعمل بشكل قريب مع البلدان ذات التفكير المماثل كالهند واليابان وكندا والمكسيك والبرازيل، التي تدعم هي كذلك التجارة الحرة والمؤسسات متعددة الأطراف التي تتعرض للهجوم من ترامب.
إذا كانت نهاية عهد ميركل على مرمى البصر، ستتخلّى عن قيادة بلدها بعد عامين، أي ستكون أوروبا في وضع جديد وخطير كما قال جديون ريتشمان في «الفاينانشال تايمز» في 22 تشرين الثاني 2017، الصورة الأكثر تعبيراً عن أحوال ألمانيا تتجه لرؤية أكثر تقييداً لحقوق اللاجئين، بما في ذلك وضع حد عام لعدد طالبي اللجوء الذين ستقبلهم ألمانيا كل عام.
خلال الانتخابات الأميركية انتقد ترامب سياسات المستشارة الألمانية ووصفها بأنها «مجنونة»، وبعد مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، وانتخاب ترامب، اعتبرت ميركل المدافع الأقوى عن النظام الليبرالي الدولي، لكن من الواضح أن جزءاً كبيراً من الصعوبات الحالية التي تواجهها المستشارة تنبع من صعود جناحي اليمين المتطرف واليسار المتطرف في ألمانيا، اللذين حققا فيما بينهما أكثر من 20 في المئة من الأصوات، أي خُمس المقاعد في البرلمان الألماني وفي خضم كل هذه المشاكل يرى المراقبون أن ألمانيا، بزعامة ميركل، هي صخرة الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي يحلم الاتحاد الأوروبي في بنائه.
في ألمانيا، أنجيلا ميركل وشركاؤها في الائتلاف، حققوا نجاحاً اقتصادياً، والحكومة تسبح في «بحر من النقود»، لقد اعترفوا علناً بأن زيادة فوائض الموازنة الفيدرالية ستمنح أي حكومة جديدة مبلغ 30 مليار يورو لإنفاقه على تخفيضات الضرائب، ولكن وفقاً لأحد المطلعين، فإن الرقم الصحيح ربما كان نحو 60 مليار يورو.
كل المتغيرات الدولية والمحلية التي اشرنا إليها تؤكد أن السياسة في ألمانيا لم تُعد تُمارَس حسب القواعد القديمة، فإن حزب «البديل لألمانيا» ذا الاتجاهات الشعبوية المناهضة للمهاجرين، وبالذات المسلمين، قد غيّر حسابات بناء ائتلاف تقليدي. وبالتالي أغُرقت آمال ميركل في التوصل إلى الائتلاف العريض الذي أطلقت عليه الصحافة الألمانية اسم: جامايكا، وسُمّي كذلك لأن ألوان الأحزاب الثلاثة تطابق ألوان علم الدولة الكاريبية، ثم جاءت تحذيرات ميركل المُحبطة في صيغة لا تخلو من الاعتذار أو التراجع على الأقل: «أعدكم بألا أفعل ذلك مرة أخرى بفتح حدود ألمانيا أمام تدفق اللاجئين».
هذا التناقض، هو أفضل وضع لتقديم صورة مثالية عن المزاج السياسي القلق السائد الآن، في ألمانيا، حيث قدّمت أنجيلا ميركل تقييماً لاذعاً لترامب باعتباره شريكاً غير موثوق به خاصة أنه تنصّل من القيادة العالمية لصالح قومية «أميركا أولاً، ليترك أوروبا تبذل المزيد من الجهد لحماية أمنها».
ألمانيا تظهر حتى الآن مجتمعاً مستقراً لكن يبدو أنه يتوجب على الرايخ الألماني بذل الكثير من الجهد بالتشارك مع دول أوروبا العجوز الأخرى للدفاع عن نفسها ضد نزوة ترامب وهجومه الحمائي العدواني.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن