ثقافة وفن

مبادئ التشكيل الصوتيّ للغة العربية … د. أحمد قدور: استمداد اللسانيات وإدخاله علومَنا اللغوية لن يفيد ما لم ينطلق من أصالة العربية

| سوسن صيداوي

من العلوم الحديثة علم اللسانيات الذي يدخل إلى عمق اللغة بهدف فهم العلاقة بين اللغة والمجتمع والإنسان تأكيداً لموقعها الأساس في الحياة الفكرية. وانطلاقاً من أهمية لغتنا العربية وتأثيرها البالغ في جميع المجالات، كعادته أقام مجمع اللغة العربية بدمشق محاضرة ألقاها عضو المجمع الأستاذ الدكتور أحمد قدور، عنوانها «مبادئ التشكيل الصوتي للغة العربية» في قاعة المحاضرات بالمجمع، وللمزيد نتوقف عند بعض النقاط.

في البداية
أشار د. أحمد قدور إلى أنّ هذه المحاضرة تتكشف عن مخاوف عديدة من التطبيق القسري للمسائل اللسانية، وإهدار الفروق التي ينبغي أن تؤخذ في الحسبان، قائلاً: «كنت ألممت سابقاً هنا في محاضرة عامة (في مجمع اللغة العربية) بأهمّ الآثار الإيجابية للسانيات في مجالات المناهج والمصطلحات والإضافات العلمية، ولا سيّما ثمرات المنهج المقارن، وفروع اللسانيات التطبيقية. لكنّ الصورة لن تكتمل إلا إذا وقفنا على الجهة الأخرى، أي على الآثار السلبية للسانيات على صعيد المصطلح والمسائل الدرسية في الأصوات والصرف والنحو والدلالة وغير ذلك. وهذا ما نحن بصدده في هذه المحاضرة».

تعريف اللسانيات
تحت هذا العنوان يؤكد الباحث أن اللسانيات في الدرس اللغوي النظري والتطبيقي محتاجة إلى مراجعة دقيقة للمفاهيم الرئيسة والمصطلحات والمسائل المختلفة، الأمر الذي يتطلب مراجعة العلوم من داخلها ضرورية، وهي نهج علمي سلكته علوم كثيرة كالرياضيات والفلسفة وغيرها. وحول تعريف هذا العلم الحديث يضيف: «إننا نريد بصراحة أن نعرف اللسانيات ونعرّف بها مع قصد لبيان الفرق والاختلاف. وليس مقبولاً أن نقلّد علماً أيّاً كان من غير وعي بحجة التجديد أو الحداثة. بل إن من الواجب علينا أن نسدّد علومنا أصلاً، لا أن نبدّد منها شيئاً. إنّ الدارس المتابع لا يستطيع تجاهل الترجمات الركيكة التي تنقل علوم اللسانيات من مصادر عامة أو قديمة، ثم تُقدّم لنا على أساس أنها صالحة لكلّ زمان ومكان، وما علينا إلا أن نهضم مصطلحاتها الغامضة والمتعدّدة، أو نتقبّل التطبيق الهزيل والمقايسات الغريبة التي لا تفضي إلى شيء ذي قيمة.
ونؤكد أنّ أيّ استمداد من اللسانيات ومحاولة إدخاله علومَنا اللغوية لن يؤدي إلى فائدة ما، إن لم ينطلق من خصائص العربية، وأصالة علومها وصلاحها، وشمولها جوانب الدرس اللغوي كافة. لقد كشفت علومنا اللغوية منذ أن تعاطى النحاة الأوائل كلام العرب أشياءَ كامنةً في لغتنا تكاد تنفرد بها من دون اللغات الأخرى. من ذلك استجابتُها للتحليل الرياضي والموسيقي، وقبولُها القياس لاطراد ظواهرها، وبناؤها التوليدي الاشتقاقي، ونحو ذلك».

في التشكيل الصوتي
في هذا الجانب أفرد د. أحمد قدور الحديث حول التشكيل الصوتي، موضحا أنه مصطلح جديد وُضع ترجمةً لمصطلح الفونولوجيا «Phonology»، الأخير الذي هو علم لساني حديث نشأ في القرن التاسع عشر، واتسعت مجالاته في القرن العشرين حين اخترعت آلات جديدة لتحليل الكلام. متابعا أن أهمّ ما يدرس عادة في الفونولوجيا مسائل الفونيم (الحرف)، والألفون (الصوت المنطوق في سياق محدّد)، والمقطع، والنبر، والتنغيم. ومن الطبيعي أن الفونولوجيا مبنية على التحليل اللغوي المستمدّ من اليونانية، ومن اللغات الأوربية الحديثة، وكلّها ينتمي إلى المجموعة اللغوية المعروفة بـ(الهندية الأوربية). أما التحليل اللغوي الذي أنجزته علومنا فلا مكان له في هذا السياق، إنْ سَلِمَ من التخطئة والأحكام القاصرة أو الجائرة.

الهدف من المحاضرة
تسعى هذه المحاضرة إلى إعادة النظر فيما نقله أو وظّفه أبرز الدارسين العرب منذ منتصف القرن الماضي تقريباً. واقترح د. قدور فيها الرجوع إلى التحليل اللغوي العربي لسببين هما أنه أصلحُ من غيره لِلغتنا لأنه مبنيٌّ عليها، وأنّ نتائج الدرس المخبري في تحليل الأصوات وتركيبها تؤيّد الكثير من مسائل علومنا وآراء علمائنا من جهة، وتصحّح ما وقع فيه بعض اللسانيين المتقدّمين من أخطاء من جهة أخرى. وتستنبط المحاضرة مجموعة من المبادئ المستخلصة من مصادر النحو عندنا، لأن النحاة هم الذين عُنوا بتركيب الأصوات وما يعتريها من تغيّر بسبب المجاورة أو الإدراج في سياق الكلام.
مشيراً إلى أنّ عناصر التحليل الفونولوجي تستبعد تماماً العناصر اللغوية العربية، وتريد إحلال عناصرها محلّها. من ذلك استبعاد مفهوم (الحرف) و(الحركة) و(الإدراج) و(أصوات المدّ واللين وأصوات اللين). وما تنطوي عليه من قواعد التلفّظ، كعدم الابتداء بالساكن، والتخلّص من التقاء الساكنين، وعدم الوقوف على المتحرّك، أو انفراد الحرف المتحرك بالنطق وحده، وكذلك عدم إمكان النطق بالساكن وحده من غير أن يسبق بمتحرّك. ولذلك رأينا جمهور الدارسين العرب يأخذون بالمصطلحات المترجمة كالصامت والصائت، والصائت القصير والصائت الطويل والفونيم والألفون، ويعظّمون من شأن النبر والتنغيم تقليداً لِما عرفوه في اللغات الأجنبية، مع الكثير من الاتهامات لعلمائنا بالخطأ والقصور ونحو ذلك.

في الخلاصة
هنا يوصلنا الباحث في نهاية محاضرته إلى نتيجة مفادها أنّ مراجعة عشرات الكتب في هذا الصدد لم تسفر عن جديد يضاف إلى التحليل اللغوي، ذاكرا العديد من القضايا التي تثير العقبات في هذا الجانب كالتخبّط في مفهوم(المدّ)، والوقوع في مقايسات غريبة لا تستوفي أصول البحث وقواعده المعروفة. وكذلك الشأن في التركيب المقطعي الذي أُخذ أصلاً من اليونانية، وقد عرفه قدامى النحاة عندنا، ولم يحفلوا به. أما دارسونا المحدثون فقد تفنّنوا في اختراع المقاطع، والتمثيل لها مجاراة للفونولوجيا التي جعلوها مقياساً من غير فرق لكلّ اللغات مهما اختلفت. وبيّن د. أحمد قدور ما توصل إليه بعد المراجعة حول وجود مقاطع وهمية لا ترد في الكلام العربي كالتي ذكرها تمّام حسّان، وأنّ هناك مقاطع تردّ إلى التحليل العربي القائم على توالي المتحرّك والساكن، والوقف على الساكن، نحو (بابْ) و(رادّ) أو (شابّة) و(دابَّةً). وكذلك نحو (مِنْ وفيْ…)، إذ تجيز ذلك العربية ولا تجعله حتماً نوعاً من المقاطع مستقلاً بذاته. أما المقطع المؤلّف من حرف وحركة فلا يرد في العربية منفرداً، ولا بدّ إما من إدراجه إلى متحرّك بعده، أو الوقوف عليه بالسكون المتولّد من المدّ. وهكذا تُظهر هذه النتائج بعداً شاسعاً بين التحليل الفونولوجي والتحليل اللغوي العربي. كما تُظهر كذلك أنّ الاحتكام إلى قواعد التلفّظ في العربية، وتوالي المتحرّك والساكن، والاستدلال بالتقطيع العروضي خير من هذا التخبّط وإضاعة الجهد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن