ثقافة وفن

غادة السمان صخرة في قاسيون

د. علي القيّم : 

في حديث هاتفي من باريس، تم منذ أيام مع الأديبة السورية الكبيرة غادة السمان، سألتني عن روايتها الجديدة التي تحمل عنوان «يا دمشق وداعاً- فسيفساء التمرد» قلت: موجودة على «بسطات» الكتب، وعند «كورنيش الجامعة» وفي جميع المكتبات، والنسخ جميعها مزورة، وبإتقان جيد.. قالت حلال عليهم، المهم عندي أن تصل إلى الناس، وتحظى بإقبال أهل بلدي عليها… قلت: من هذه الناحية اطمئني، فأهل سورية يكنون لك الحب والتقدير والاحترام، ويدركون جيداً أن دمشق مدينتك الأم، لم تغادرك يوماً، وما زالت رمز المحبة والصمود والتحدي والإباء.. وهي كما قال عنها صالح جودت:
دمشق يا معبد الأشواق في حلمي
يا كعبة الروح بعد القدس والحرم
حديثنا الهاتفي، كان دافعاً كبيراً لي للوقوف عند هذه الرواية التي تتابع فيها أديبتنا الكبيرة معاركها الأدبية والفكرية من أجل هدف اختصرته بحرف (الحاء) ليشمل عالماً سعت إلى تحقيقه يقوم على عمودي وجودها (الحرية) و(الحب) وحدها البومة رفيقة أهوائها وتعرف ما تعتزم القيام به.. دمشق مزروعة في كل خطوة من حياتها.. رائحة الخريف الشامي الدافئ المنعش تسري في شرايينها، ومع ذلك تتابع الكتابة لتصنع الحرير التقليدي، وتطير بجناحي نسر لتنتقل من «زفاق الياسمين» إلى «زقاق الجن» إلى «سفح جبل قاسيون» لتطل على شرفة بيت والدها في «ساحة المدفع».. تحمل القلم والورقة على امتداد رحلتها الداخلية، لا تشعر باليأس.. ولا تنسى الغوطة في الربيع، حيث جنون الأشجار مكتوباً بالبياض والوردي والأحمر في البراعم، وشقائق النعمان والأزهار البرية على الأرض، إنه الربيع الدمشقي المكتوب بالعطر وبألوان حبر الطبيعة… عطر الأزهار متعددة الأنفاس والأرواح.
غادة السمان في «يا دمشق وداعاً» تعيش سعادة هاربة من زمنها العسير.. هي في ما كتبت لم تغادر دمشق.. لقد امتلأ قبلها عشقاً وحباً لمدينة الأنهر السبعة.. وتعرف جدياً أنها صخرة في قاسيون كتب عليها «اذكريني دائماً» وتحتها عبارة «لن أنساك»… في ساحة جبل قاسيون تُبَوّم وتتنفس ملء رئتيها وتشعر بالحاجة إلى اكتشاف رئتها الثالثة.. رئة الحرية… الحرية، فهي لا تطيق أن يضع أحد «عداداً» على ضربات طبول قلبها، وطواحين هواء روحها، وجنونها داخل شرايينها حيث تزمجر العواصف في الأنابيب والدهاليز المعتمة للروح، وستظل تصرخ بأعلى صوتها كأي بومة يحاولون قصقصة أجنحتها.. إنها مضمخة بدم أحزانها وبالحبر، ولكنها تطير، وستظل تطير وستظل تغني… حرية… حرية… حرية… وتستنشق أحواض الياسمين والفل والريحان والورد الجوري والنرجس والنارنج، وتسمع أذان العصر قادماً من الجامع الأموي الكبير القريب من منزل عائلتها القديم.
غادة السمان، غامرت بالرحيل، ورحلت عن دمشق، ولكنها في جميع ما كتبت من رواية وقصة وشعر وأدب الرحلات والنقد وسواها، لم تغادر دمشق ولا يمكنها أن تقول: «يا دمشق وداعاً» إلا على الورق.. لقد ظلت تحلم بكوابيسها، وتركض هاربة وفي قلبها انتحاب لأنها تحت مدينتها الساحرة وما زالت تلك الصغيرة التي تركض في أزقتها وساحاتها في المهاجرين وسوق ساروجة والمسكية والقباقبية وسوق «تفضلي يا ست» والميدان والشاغور…
هي ما زالت تعانق أجدادها في كتب التراث.. لم تودع أحداً حتى باتصال هاتفي، خوفاً من أن تضعف وتنهار… وبقيت تبكي داخل شرايينها، وهي التي روضت لنفسها عند الطفولة على اللا شكوى واللا بكاء…
غادة السمان في روايتها «يا دمشق وداعاً» تحلّق فوق أحزانها… «إنه الليل لكنني أرى الظلام حين أحدق في الأفق صوب دمشق» ها هي تتسلق قاسيون من سفحه في الربوة، لتصل إلى الصخرة الشاهقة التي يعرفها أهل الشام من زمان، وقد كتب مجنون عليها «اذكريني دائماً» وكتبت عليها يوم غادرت دمشق: «لا أنساك» وها هي تكتب عليها في روايتها الجديدة الساحرة…«سأعود» مهما طُرت فوق القارات… أنا صخرة في قاسيون وسأعود..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن