المحاسبة والعقل
| إسماعيل مروة
يتردد كثيراً مصطلح المحاسبة، ومصطلح المساءلة، ويردد كثيرون مطالباتهم بمحاسبة المسيء أو المجرم أو المخطئ، ولكننا لم نشهد مثل هذه المحاسبات في يوم من الأيام، وكأن الخطأ أمر قدري، والمحاسبة عليه متروكة للقدر، وأذكر أن عدداً لا يستهان به ممن أوقدوا النيران في سورية، وفي مختلف الحقب التاريخية، سجلوا شهاداتهم وذكرياتهم، فظهروا أنقياء أبرياء لا علاقة لهم بأي خطأ من الأخطاء!
سلبوا.. قتلوا.. نهبوا.. وعندما تحدثوا كان الآخرون هم الذين فعلوا لا هُم، وغالباً ما يكون الآخرون من الراحلين المتوفين..! ولصوص وأكثر عاشوا أعماراً في الفساد، وعندما انتهت فعاليتهم، جلسوا للاستمتاع بما سلبوه وسرقوه، والأدهى من ذلك أن الناس يشفقون عليهم، ويرددون مقولة «ارحموا عزيز قوم ذلّ» فمن جعله عزيزاً؟ ولماذا عندما كان عزيزاً لم يكن رحيماً أو كريماً أو شريفاً؟ ولماذا كان يدفع الآخرين ليكونوا وضيعين أذلاء بين يديه؟ هذا الذي وصل إلى العزة التي لا يستحقها، هل اكتسب من العزة مواصفاتها؟
إن مقولة ارحموا عزيز قوم ذل غاياتها أعمق من ذلك، فهي لمن كان عزيزاً، وأراد للناس العزة، وجار عليه الزمن من كرم زائد عنده، ومن تآمر عليه، ومن أشياء أخرى كثيرة أوصلته إلى حالة من العوز والمذلة، ولا يقصد بها المسؤول أو صاحب القرار الذي عمل حياته لنفسه وإذلال الناس، وصار فجأة ومن دون مقدمات هملاً وذليلاً.. حتى عندما يتحول الظالم إلى ذليل، ويأخذ عقوبته القدرية نجد من الناس من يشفق عليه ويلوم القدر لأنه لم يرحمه؟
وما من فراغ أن عدم المحاسبة صار سياسة مجتمعية واجتماعية، واذا ما نظرنا إلى مصدر الثقافة الأول في مجتمعاتنا غير القرائية وهو الدراما، فإننا سنجد نوعين لا ثالث لهما، الأول وهو الأكثر شيوعاً، وعمل عليه أكثر صناع الدراما، وهو المحاسبة الإلهية الغيبية، فهذا انتقم الله منه بنفسه، وهذا انتقم به في أسرته وأولاده، وهذا صار عبرة، وفي كل حال من الأحوال بقي أصحاب الحقوق من الناس بلا حقوقهم! فكانوا مسرورين بالعقاب الإلهي، ومن ثم كانوا مشفقين، وتحولوا إلى مترحمين، وفي بعض الأحوال تحولوا في نظر أنفسهم إلى مذنبين لأن الله عاقب هذا الشخص وأسرته بسببهم، ولم يخطر ببال أحدهم أن يقول: «ولا تزر وازرة وزر أخرى» ولا يمكن للمشيئة أن تعاقب على ذنب ارتكبه الأهل، أو ما شابه!
أما الحل الثاني فهو التوبة، فبعد ثلاثين حلقة قد تمتد لنصف قرن يبكي هذا ويندم، ويسمع المجتمع ويصفح! ويبقى ما سرق وما سُلب وما حرق في صفحة نسيان الماضي، ويعود المعتدي إلى حياته الطبيعية ويتبارى المجتمع في امتداحه، وفي الحديث عن توبته النصوح، ويمكن أن يبّرم شواربه ليصبح وجيهاً أو زعيماً، وما من مرة قيل: إن ما تفعله تجاه نفسك يمكن أن تتوب عنه، أما ما تفعله تجاه الناس وحقوقهم فلا يمكن أن يتم التسامح فيه، ولابد من المحاسبة قبل أن تعود فرداً عادياً في المجتمع!
أخطاء الإنسان تصرف وفعل، وعلى المرء أن يدفع نتيجة تصرفه.
ما يقوم به المرء من أفعال حسنة يجب أن يثاب عليها، وما يقدم عليه من أفعال شائنة بحق الناس يجب أن يحاسب عليها، هذا ما تقتضيه شرعة الانسان والوجود، وأي حلول أخرى لا قيمة لها، ولا يمكن أن يتم الوثوق بها، وهي تعمل على شيطنة المجتمع وتحويله إلى مجتمع غيبي عاجز عن الفعل.
العقل يقتضي أن يعيد السارق ما سرقه، ويعاقب قبل أن يصبح فرداً عادياً، أما إن سرق ونهب واعتدى، واحتفظ بكل ما فعله لأن الله بالمرصاد وسينتقم منه، فإننا لن نبني مجتمعاً متحضراً، وإذا اعتمدنا فكرة التسامح الغبي فإننا لن نصل إلى مجتمع ننشده ويكون غداً القادم المشرق.